فصل: الْبَحْثُ الْخَامِسُ: أَنَّهُ يَقْرُبُ مِنَ الِالْتِفَاتِ نَقْلُ الْكَلَامِ إِلَى غَيْرِهِ

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البرهان في علوم القرآن ***


الْقَلْبُ مَعْنَاهُ وَوُقُوعُهُ فِي الْقُرْآنِ

وَفِي كَوْنِهِ مِنْ أَسَالِيبِ الْبَلَاغَةِ خِلَافٌ، فَأَنْكَرَهُ جَمَاعَةٌ، مِنْهُمْ حَازِمٌ فِي كِتَابِ ‏"‏ مِنْهَاجِ الْبُلَغَاءِ ‏"‏ وَقَالَ‏:‏ إِنَّهُ مِمَّا يَجِبُ أَنْ يُنَزَّهَ كِتَابُ اللَّهِ عَنْهُ؛ لِأَنَّ الْعَرَبَ إِنْ صَدَرَ ذَلِكَ مِنْهُمْ فَبِقَصْدِ الْعَبَثِ، أَوِ التَّهَكُّمِ، أَوِ الْمُحَاكَاةِ، أَوْ حَالِ اضْطِرَارٍ، وَاللَّهُ مُنَزَّهٌ عَنْ ذَلِكَ‏.‏

وَقَبِلَهُ جَمَاعَةٌ مُطْلَقًا، بِشَرْطِ عَدَمِ اللَّبْسِ كَمَا قَالَهُ الْمُبَرِّدُ فِي كِتَابِ ‏"‏ مَا اتَّفَقَ لَفْظُهُ وَاخْتَلَفَ مَعْنَاهُ ‏"‏‏.‏

وَفَصَّلَ آخَرُونَ بَيْنَ أَنْ يَتَضَمَّنَ اعْتِبَارًا لَطِيفًا، فَبَلِيغٌ؛ وَإِلَّا فَلَا، وَلِهَذَا قَالَ ابْنُ الضَّائِعِ‏:‏ يَجُوزُ الْقَلْبُ عَلَى التَّأْوِيلِ، ثُمَّ قَدْ يَقْرُبُ التَّأْوِيلُ فَيَصِحُّ فِي فَصِيحِ الْكَلَامِ، وَقَدْ يَبْعُدُ فَيَخْتَصُّ بِالشِّعْرِ‏.‏

‏[‏ أَنْوَاعٌ الْقَلْبِ‏]‏

أَحَدُهَا‏:‏ قَلْبُ الْإِسْنَادِ أَنْوَاعُ الْقَلْبِ فِي الْقُرْآنِ

وَهُوَ أَنْ يَشْمَلَ الْإِسْنَادَ إِلَى شَيْءٍ وَالْمُرَادُ غَيْرُهُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ‏}‏ ‏(‏الْقَصَصِ‏:‏ 76‏)‏ إِنْ لَمْ تَجْعَلِ الْبَاءَ لِلتَّعْدِيَةِ؛ لِأَنَّ ظَاهِرَهُ أَنَّ الْمَفَاتِحَ تَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ، وَمَعْنَاهُ أَنَّ الْعُصْبَةَ تَنُوءُ بِالْمَفَاتِحِ لِثِقَلِهَا، فَأَسْنَدَ ‏"‏ لَتَنُوءُ ‏"‏ إِلَى ‏"‏ الْمَفَاتِحِ ‏"‏، وَالْمُرَادُ إِسْنَادُهُ إِلَى الْعُصْبَةِ؛ لِأَنَّ الْبَاءَ لِلْحَالِ، وَالْعُصْبَةَ مُسْتَصْحِبَةُ الْمَفَاتِحِ، لَا تَسْتَصْحِبُهَا الْمَفَاتِحُ، وَفَائِدَتُهُ الْمُبَالَغَةُ، بَجْعِلِ الْمَفَاتِحِ كَأَنَّهَا مُسْتَتْبِعَةٌ لِلْعُصْبَةِ الْقَوِيَّةِ بِثِقَلِهَا‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ لَا قَلْبَ فِيهِ، وَالْمُرَادُ- وَاللَّهُ أَعْلَمُ- أَنَّ الْمَفَاتِحَ تَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أَيْ‏:‏ تُمِيلُهَا مِنْ ثِقَلِهَا، وَقَدْ ذَكَرَ هَذَا الْفَرَّاءُ وَغَيْرُهُ‏.‏

وَقَالَ ابْنُ عُصْفُورٍ‏:‏ وَالصَّحِيحُ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْفَارِسِيُّ أَنَّهَا بِالنَّقْلِ وَلَا قَلْبَ، وَالْفِعْلُ غَيْرُ مُتَعَدٍّ فَصَارَ مُتَعَدِّيًا بِالْبَاءِ؛ لِأَنَّ ‏"‏ نَاءَ ‏"‏ غَيْرُ مُتَعَدٍّ، يُقَالُ‏:‏ نَاءَ النَّجْمُ؛ أَيْ‏:‏ نَهَضَ، وَيُقَالُ‏:‏ نَاءَ أَيْ‏:‏ مَالَ لِلسُّقُوطِ، فَإِذَا نَقَلْتَ الْفِعْلَ بِالْبَاءِ قُلْتَ‏:‏ نُؤْتُ بِهِ، أَيْ‏:‏ أَنْهَضْتُهُ وَأَمَلْتُهُ لِلسُّقُوطِ، فَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ‏}‏ ‏(‏الْقَصَصِ‏:‏ 76‏)‏ أَيْ‏:‏ تُمِيلُهَا الْمَفَاتِحُ لِلسُّقُوطِ لِثِقَلِهَا‏.‏

قَالَ‏:‏ وَإِنَّمَا كَانَ مَذْهَبُ الْفَارِسِيِّ أَصَحَّ؛ لِأَنَّ نَقْلَ الْفِعْلِ غَيْرِ الْمُتَعَدِّي بِالْبَاءِ مَقِيسٌ، وَالْقَلْبَ غَيْرُ مَقِيسٍ، فَحَمْلُ الْآيَةِ عَلَى مَا هُوَ مَقِيسٌ أَوْلَى‏.‏

وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ‏}‏ ‏(‏الْأَنْبِيَاءِ‏:‏ 37‏)‏ أَيْ‏:‏ خُلِقَ الْعَجَلُ مِنَ الْإِنْسَانِ، قَالَهُ ثَعْلَبٌ وَابْنُ السِّكِّيتِ‏.‏

قَالَ الزَّجَّاجُ‏:‏ وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا‏}‏ ‏(‏الْإِسْرَاءِ‏:‏ 11‏)‏‏.‏

قَالَ ابْنُ جِنِّيٍّ‏:‏ وَالْأَحْسَنُ أَنْ يَكُونَ تَقْدِيرُهُ‏:‏ خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنَ الْعَجَلِ؛ لِكَثْرَةِ فِعْلِهِ إِيَّاهُ، وَاعْتِمَادِهِ لَهُ، وَهُوَ أَقْوَى فِي الْمَعْنَى مِنَ الْقَلْبِ؛ لِأَنَّهُ أَمْرٌ قَدِ اطَّرَدَ وَاتَّسَعَ، فَحَمْلُهُ عَلَى الْقَلْبِ يَبْعُدُ فِي الصَّنْعَةِ وَيُضْعِفُ الْمَعْنَى‏.‏

وَلَمَّا خَفِيَ هَذَا عَلَى بَعْضِهِمْ قَالَ‏:‏ إِنَّ الْعَجَلَ هَاهُنَا الطِّينُ‏.‏ قَالَ‏:‏ وَلَعَمْرِي إِنَّهُ فِي اللُّغَةِ كَمَا ذَكَرَ؛ غَيْرَ أَنَّهُ لَيْسَ هُنَا إِلَّا نَفْسُ الْعَجَلِ، أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ قَبْلَهُ‏:‏ ‏{‏سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ‏}‏ ‏(‏الْأَنْبِيَاءِ‏:‏ 37‏)‏ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا‏}‏ ‏(‏الْإِسْرَاءِ‏:‏ 11‏)‏ ‏{‏وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا‏}‏ النِّسَاءِ‏:‏ 28‏)‏ لِأَنَّ الْعَجَلَةَ ضَرْبٌ مِنَ الضَّعْفِ لِمَا تُؤْذِنُ بِهِ الضَّرُورَةُ وَالْحَاجَةُ‏.‏

وَقِيلَ فِي قَوْلِهِ‏:‏ وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ‏(‏ق‏:‏ 19‏)‏‏:‏ إِنَّهُ مِنَ الْمَقْلُوبِ، وَأَنَّهُ ‏"‏ وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْحَقِّ بِالْمَوْتِ ‏"‏ وَهَكَذَا فِي قِرَاءَةِ أَبِي بَكْرٍ‏.‏

مِثْلُهُ‏:‏ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ ‏(‏الرَّعْدِ‏:‏ 38‏)‏ قَالَ الْفَرَّاءُ‏:‏ أَيْ لِكُلِّ أَمْرٍ كَتَبَهُ اللَّهُ أَجَلٌ مُؤَجَّلٌ‏.‏

وَقِيلَ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ‏}‏ ‏(‏يُونُسَ‏:‏ 107‏)‏‏:‏ هُوَ مِنَ الْمَقْلُوبِ، أَيْ‏:‏ يُرِيدُ بِكَ الْخَيْرَ، وَيُقَالُ‏:‏ أَرَادَهُ بِالْخَيْرِ وَأَرَادَ بِهِ الْخَيْرَ‏.‏

وَجَعَلَ ابْنُ الضَّائِعِ مِنْهُ ‏{‏فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 37‏)‏ قَالَ‏:‏ فَآدَمُ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ هُوَ الْمُتَلَقِّي لِلْكَلِمَاتِ حَقِيقَةً، وَيَقْرُبُ أَنْ يُنْسَبَ التَّلَقِّي لِلْكَلِمَاتِ؛ لِأَنَّ مَنْ تَلَقَّى شَيْئًا أَوْ طَلَبَ أَنْ يَتَلَقَّاهُ فَلَقِيَهُ كَانَ الْآخَرُ أَيْضًا قَدْ طَلَبَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ قَدْ لَقِيَهُ، قَالَ‏:‏ وَلِقُرْبِ هَذَا الْمَعْنَى قُرِئَ بِالْقَلْبِ‏.‏

وَجَعَلَ الْفَارِسِيُّ مِنْهُ قَوْلَهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ‏}‏ ‏(‏هُودٍ‏:‏ 28‏)‏ أَيْ‏:‏ فَعَمِيتُمْ عَلَيْهَا‏.‏

وَقَوْلَهُ‏:‏ ‏{‏فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ‏}‏ ‏(‏يُونُسَ‏:‏ 24‏)‏‏.‏

وَقَوْلَهُ‏:‏ ‏{‏وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا‏}‏ ‏(‏مَرْيَمَ‏:‏ 8‏)‏ ‏{‏وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ‏}‏ ‏(‏آلِ عِمْرَانَ‏:‏ 40‏)‏ أَيْ‏:‏ بَلَغْتُ الْكِبَرَ‏.‏

وَقَوْلَهُ‏:‏ ‏{‏أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ‏}‏ ‏(‏الْجَاثِيَةِ‏:‏ 23‏)‏ وَقَوْلَهُ‏:‏ ‏{‏فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ‏}‏ ‏(‏الشُّعَرَاءِ‏:‏ 77‏)‏ فَإِنَّ الْأَصْنَامَ لَا تُعَادِي، وَإِنَّمَا الْمَعْنَى‏:‏ فَإِنِّي عَدُوٌّ لَهُمْ، مُشْتَقٌّ مِنْ عَدَوْتُ الشَّيْءَ، إِذَا جَاوَزْتَهُ وَخَلَّفْتَهُ، وَهَذَا لَا يَكُونُ إِلَّا فِيمَنْ لَهُ إِرَادَةٌ، وَأَمَّا ‏"‏ عَادَيْتُهُ ‏"‏ فَمُفَاعَلَةٌ لَا يَكُونُ إِلَّا مِنِ اثْنَيْنِ‏.‏

وَجَعَلَ مِنْهُ بَعْضُهُمْ‏:‏ ‏{‏وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ‏}‏ ‏(‏الْعَادِيَاتِ‏:‏ 8‏)‏ أَيْ‏:‏ إِنَّ حُبَّهُ لِلْخَيْرِ لَشَدِيدٌ‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ لَيْسَ مِنْهُ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ أَنَّهُ لِحُبِّ الْمَالِ لَبَخِيلٌ، وَالشِّدَّةُ الْبُخْلُ، أَيْ‏:‏ مِنْ أَجْلِ حُبِّهِ لِلْمَالِ يَبْخَلُ‏.‏

وَجَعَلَ الزَّمَخْشَرِيُّ مِنْهُ قَوْلَهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ‏}‏ ‏(‏الْأَحْقَافِ‏:‏ 20‏)‏ كَقَوْلِكَ‏:‏ عُرِضَتِ النَّاقَةُ عَلَى الْحَوْضِ؛ لِأَنَّ الْمَعْرُوضَ لَيْسَ لَهُ اخْتِيَارٌ، وَإِنَّمَا الِاخْتِيَارُ لِلْمَعْرُوضِ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ قَدْ يَفْعَلُ وَيُرِيدُ؛ وَعَلَى هَذَا فَلَا قَلْبَ فِي الْآيَةِ؛ لِأَنَّ الْكُفَّارَ مَقْهُورُونَ، فَكَأَنَّهُمْ لَا اخْتِيَارَ لَهُمْ، وَالنَّارُ مُتَصَرِّفَةٌ فِيهِمْ، وَهُوَ كَالْمَتَاعِ الَّذِي يُقَرَّبُ مِنْهُ مَنْ يُعْرَضُ عَلَيْهِ، كَمَا قَالُوا‏:‏ عُرِضَتِ الْجَارِيَةُ عَلَى الْبَيْعِ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ‏}‏ ‏(‏الْقَصَصِ‏:‏ 12‏)‏ وَمَعْلُومٌ أَنَّ التَّحْرِيمَ لَا يَقَعُ إِلَّا عَلَى الْمُكَلَّفِ، فَالْمَعْنَى‏:‏ وَحَرَّمْنَا عَلَى الْمَرَاضِعِ أَنْ تُرْضِعَهُ، وَوَجْهُ تَحْرِيمِ إِرْضَاعِهِ عَلَيْهِنَّ أَلَّا يَقْبَلَ إِرْضَاعَهُنَّ حَتَّى يُرَدَّ إِلَى أُمِّهِ‏.‏

وَقَوْلُهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَمَا يُخَادِعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 9‏)‏ وَقِيلَ‏:‏ الْأَصْلُ وَمَا تَخْدَعُهُمْ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ؛ لِأَنَّ الْأَنْفُسَ هِيَ الْمُخَادِعَةُ وَالْمُسَوِّلَةُ قَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ‏}‏ ‏(‏يُوسُفَ‏:‏ 18‏)‏‏.‏

وَرُدَّ بِأَنَّ الْفَاعِلَ فِي مِثْلِ هَذَا هُوَ الْمَفْعُولُ فِي الْمَعْنَى، وَأَنَّ التَّغَايُرَ فِي اللَّفْظِ فَقَطْ، فَعَلَى هَذَا يَصِحُّ إِسْنَادُ الْفِعْلِ إِلَى كُلٍّ مِنْهُمَا؛ وَلَا حَاجَةَ إِلَى الْقَلْبِ‏.‏

الثَّانِي‏:‏ قَلْبُ الْمَعْطُوفِ أَنْوَاعُ الْقَلْبِ ‏(‏فِي الْقُرْآنِ‏)‏

إِمَّا بِأَنْ يُجْعَلَ الْمَعْطُوفُ عَلَيْهِ مَعْطُوفًا وَالْمَعْطُوفُ مَعْطُوفًا عَلَيْهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ‏}‏ ‏(‏النَّمْلِ‏:‏ 28‏)‏ حَقِيقَتُهُ‏:‏ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ، ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ؛ لِأَنَّ نَظَرَهُ مَا يَرْجِعُونَ مِنَ الْقَوْلِ غَيْرُ مُتَأَتٍّ مَعَ تَوَلِّيهِ عَنْهُمْ‏.‏ وَمَا يُفَسَّرُ بِهِ التَّوَلِّي مِنْ أَنَّهُ يَتَوَارَى فِي الْكُوَّةِ الَّتِي أَلْقَى مِنْهَا الْكِتَابَ مَجَازٌ وَالْحَقِيقَةُ رَاجِحَةٌ عَلَيْهِ‏.‏

وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى‏}‏ ‏(‏النَّجْمِ‏:‏ 8‏)‏ أَيْ‏:‏ تَدَلَّى فَدَنَا؛ لِأَنَّهُ بِالتَّدَلِّي نَالَ الدُّنُوَّ وَالْقُرْبَ إِلَى الْمَنْزِلَةِ الرَّفِيعَةِ، وَإِلَى الْمَكَانَةِ لَا إِلَى الْمَكَانِ‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ لَا قَلْبَ، وَالْمَعْنَى‏:‏ ثُمَّ أَرَادَ الدُّنُوَّ، وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ‏:‏ ‏{‏فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ‏}‏ ‏(‏النَّحْلِ‏:‏ 98‏)‏ الْمَعْنَى‏:‏ فَإِذَا اسْتَعَذْتَ فَأَقْرَأْ‏.‏

وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا‏}‏ ‏(‏الْأَعْرَافِ‏:‏ 4‏)‏ وَقَالَ صَاحِبُ ‏"‏ الْإِيضَاحِ ‏"‏‏:‏ لَا قَلْبَ فِيهِ؛ لِعَدَمِ تَضَمُّنِهِ اعْتِبَارًا لَطِيفًا‏.‏

وَرُدَّ بِتَضَمُّنِهِ الْمُبَالَغَةَ فِي شِدَّةِ سَوْرَةِ الْبَأْسِ، يَعْنِي هَلَكَتْ بِمُجَرَّدِ تَوَجُّهِ الْبَأْسِ إِلَيْهَا ثُمَّ جَاءَهَا‏.‏

الثَّالِثُ‏:‏ الْعَكْسُ مَعْنَاهُ وَوُقُوعُهُ فِي الْقُرْآنِ

الْعَكْسُ، وَهُوَ أَمْرٌ لَفْظِيٌّ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ‏}‏ ‏(‏الْأَنْعَامِ‏:‏ 52‏)‏‏.‏

وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 187‏)‏‏.‏

‏{‏لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ‏}‏ ‏(‏الْمُمْتَحَنَةِ‏:‏ 10‏)‏‏.‏

‏{‏يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ‏}‏ ‏(‏الْحَجِّ‏:‏ 61‏)‏‏.‏

الرَّابِعُ‏:‏ الْمُسْتَوِي مَعْنَاهُ وَوُقُوعُهُ فِي الْقُرْآنِ

وَهُوَ أَنَّ الْكَلِمَةَ أَوِ الْكَلِمَاتِ تُقْرَأُ مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى آخِرِهَا، وَمِنْ آخِرِهَا إِلَى أَوَّلِهَا، لَا يَخْتَلِفُ لَفْظُهَا وَلَا مَعْنَاهَا؛ كَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ‏}‏ ‏(‏الْمُدَّثِّرِ‏:‏ 3‏)‏‏.‏

‏{‏كُلٌّ فِي فَلَكٍ‏}‏ ‏(‏الْأَنْبِيَاءِ‏:‏ 33‏)‏‏.‏

الْخَامِسُ‏:‏ مَقْلُوبُ الْبَعْضِ مَعْنَاهُ وَوُقُوعُهُ فِي الْقُرْآنِ

وَهُوَ أَنْ تَكُونَ الْكَلِمَةُ الثَّانِيَةُ مُرَكَّبَةً مِنْ حُرُوفِ الْكَلِمَةِ الْأُولَى، مَعَ بَقَاءِ بَعْضِ حُرُوفِ الْكَلِمَةِ الْأُولَى؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ‏}‏ ‏(‏طه‏:‏ 94‏)‏ فَـ ‏"‏ بَنِي ‏"‏ مُرَكَّبٌ مِنْ حُرُوفِ ‏"‏ بَيْنَ ‏"‏، وَهُوَ مُفَرَّقٌ، إِلَّا أَنَّ الْبَاقِيَ بَعْضُهَا فِي الْكَلِمَتَيْنِ، وَهُوَ أَوَّلُهَا‏.‏

الْمُدْرَجُ مِنْ أَسَالِيبِ الْقَلْبِ فِي الْقُرْآنِ

هَذَا النَّوْعُ سَمَّيْتُهُ بِهَذِهِ التَّسْمِيَةِ بِنَظِيرِ الْمُدْرَجِ مِنَ الْحَدِيثِ، وَحَقِيقَتُهُ فِي أُسْلُوبِ الْقُرْآنِ أَنْ تَجِيءَ الْكَلِمَةُ إِلَى جَنْبِ أُخْرَى كَأَنَّهَا فِي الظَّاهِرِ مَعَهَا، وَهِيَ فِي الْحَقِيقَةِ غَيْرُ مُتَعَلِّقَةٍ بِهَا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى ذَاكِرًا عَنْ بِلْقِيسَ‏:‏ ‏{‏إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ‏}‏ ‏(‏النَّمْلِ‏:‏ 34‏)‏ فَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ‏}‏ هُوَ مِنْ قَوْلِ اللَّهِ لَا مِنْ قَوْلِ الْمَرْأَةِ‏.‏

وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ‏}‏ ‏(‏يُوسُفَ‏:‏ 51‏)‏ انْتَهَى قَوْلُ الْمَرْأَةِ‏.‏ ثُمَّ قَالَ يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ‏:‏ ‏{‏ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ‏}‏ ‏(‏يُوسُفَ‏:‏ 52‏)‏ مَعْنَاهُ‏:‏ لِيَعْلَمَ الْمَلِكُ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ‏.‏

وَمِنْهُ‏:‏ ‏{‏يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا‏}‏ ‏(‏يس‏:‏ 52‏)‏ تَمَّ الْكَلَامُ، فَقَالَتِ الْمَلَائِكَةُ‏:‏ ‏{‏هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ‏}‏ ‏(‏يس‏:‏ 52‏)‏‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ‏}‏ ‏(‏الْأَعْرَافِ‏:‏ 201‏)‏ فَهَذِهِ صِفَةٌ لِأَتْقِيَاءِ الْمُؤْمِنِينَ، ثُمَّ قَالَ‏:‏ ‏{‏وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ‏}‏ ‏(‏الْأَعْرَافِ‏:‏ 202‏)‏ فَهَذَا يَرْجِعُ إِلَى كُفَّارِ مَكَّةَ تَمُدُّهُمْ إِخْوَانُهُمْ مِنَ الشَّيَاطِينِ فِي الْغَيِّ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ‏}‏ ‏(‏الشُّعَرَاءِ‏:‏ 35‏)‏ ثُمَّ أَخْبَرَ عَنْ فِرْعَوْنَ مُتَّصِلًا ‏{‏فَمَاذَا تَأْمُرُونَ‏}‏ ‏(‏الشُّعَرَاءِ‏:‏ 35‏)‏‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لَا مَرْحَبًا بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُوا النَّارِ‏}‏ ‏(‏ص‏:‏ 59‏)‏ فَالظَّاهِرُ أَنَّ الْكَلَامَ كُلَّهُ مِنْ كَلَامِ الزَّبَانِيَةِ، وَالْأَمْرُ لَيْسَ كَذَلِكَ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ‏}‏ ‏(‏الصَّافَّاتِ‏:‏ 84‏)‏ مِنْ كَلَامِهِ تَعَالَى، وَقَالَ‏:‏ ‏{‏إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ‏}‏ ‏(‏الشُّعَرَاءِ‏:‏ 89‏)‏‏.‏

التَّرَقِّي مِنْ أَسَالِيبِ الْقَلْبِ فِي الْقُرْآنِ

كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 255‏)‏ ‏{‏لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً‏}‏ ‏(‏الْكَهْفِ‏:‏ 49‏)‏‏.‏

فَإِنْ قِيلَ‏:‏ فَقَدْ وَرَدَ‏:‏ ‏{‏فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا‏}‏ ‏(‏طه‏:‏ 112‏)‏ وَالْغَالِبُ أَنْ يُقَدَّمَ الْقَلِيلُ عَلَى الْكَثِيرِ، مَعَ أَنَّ الظُّلْمَ مَنْعٌ لِلْحَقِّ مِنْ أَصْلِهِ، وَالْهَضْمَ مَنْعٌ لَهُ مِنْ وَجْهٍ كَالتَّطْفِيفِ، فَكَانَ يُنَاسِبُهُ تَقْدِيمُ الْهَضْمِ‏.‏

قُلْتُ‏:‏ لِأَجْلِ فَوَاصِلِ الْآيِ فَإِنَّهُ تَقَدَّمَ قَبْلَهُ‏:‏ ‏{‏وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا‏}‏ ‏(‏طه‏:‏ 111‏)‏ فَعَدَلَ عَنْهُ فِي الثَّانِي كَيْلَا يَكُونَ أَبْطَأَ، وَقَدْ سِيقَتْ أَمْثِلَةُ التَّرَقِّي فِي أَسْبَابِ التَّقْدِيمِ‏.‏

الِاقْتِصَاصُ مِنْ أَسَالِيبِ الْقَلْبِ فِي الْقُرْآنِ

ذَكَرَهُ أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ فَارِسٍ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ كَلَامٌ فِي سُورَةٍ مُقْتَصًّا مِنْ كَلَامٍ فِي سُورَةٍ أُخْرَى، أَوْ فِي السُّورَةِ نَفْسِهَا، وَمَثَّلَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ‏}‏ ‏(‏الْعَنْكَبُوتِ‏:‏ 27‏)‏ وَالْآخِرَةُ دَارُ ثَوَابٍ لَا عَمَلَ فِيهَا، فَهَذَا مُقْتَصٌّ مِنْ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَا‏}‏ ‏(‏طه‏:‏ 75‏)‏‏.‏

وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ‏}‏ ‏(‏الصَّافَّاتِ‏:‏ 57‏)‏ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏فَأُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ‏}‏ ‏(‏الرُّومِ‏:‏ 16‏)‏‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا‏}‏ ‏(‏مَرْيَمَ‏:‏ 68‏)‏‏.‏

فَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ‏}‏ ‏(‏غَافِرٍ‏:‏ 51‏)‏ فَيُقَالُ‏:‏ إِنَّهَا مُقْتَصَّةٌ مِنْ أَرْبَعِ آيَاتٍ؛ لِأَنَّ الْأَشْهَادَ أَرْبَعَةٌ‏:‏

الْمَلَائِكَةُ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ‏}‏ ‏(‏ق‏:‏ 21‏)‏‏.‏

وَالْأَنْبِيَاءُ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا‏}‏ ‏(‏النِّسَاءِ‏:‏ 41‏)‏‏.‏

وَأُمَّةُ مُحَمَّدٍ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 143‏)‏‏.‏

وَالْأَعْضَاءُ لِقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ‏}‏ ‏(‏النُّورِ‏:‏ 24‏)‏‏.‏

وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ‏}‏ ‏(‏غَافِرٍ‏:‏ 32‏)‏ وَقُرِئَتْ مُخَفَّفَةً وَمُثَقَّلَةً، فَمَنْ شَدَّدَ فَهُوَ مِنْ ‏(‏نَدَّ‏)‏ إِذَا نَفَرَ، وَهُوَ مُقْتَصٌّ مِنْ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ ‏(‏عَبَسَ‏:‏ 34- 35‏)‏ الْآيَةَ، وَمَنْ خَفَّفَ فَهُوَ تَفَاعُلٌ مِنَ النِّدَاءِ، مُقْتَصٌّ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ‏}‏ ‏(‏الْأَعْرَافِ‏:‏ 44‏)‏‏.‏

الْأَلْغَازُ مِنْ أَسَالِيبِ الْقَلْبِ فِي الْقُرْآنِ

وَاللُّغْزُ الطَّرِيقُ الْمُنْحَرِفُ، سُمِّيَ بِهِ لِانْحِرَافِهِ عَنْ نَمَطِ ظَاهِرِ الْكَلَامِ، وَيُسَمَّى أَيْضًا أُحْجِيَّةً؛ لِأَنَّ الْحِجَا هُوَ الْعَقْلُ، وَهَذَا النَّوْعُ يُقَوِّي الْعَقْلَ عِنْدَ التَّمَرُّنِ وَالِارْتِيَاضِ بِحَلِّهِ وَالْفِكْرِ فِيهِ‏.‏

وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ وَقَعَ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، وَجَعَلَ مِنْهُ مَا جَاءَ فِي أَوَائِلِ السُّورِ مِنَ الْحُرُوفِ الْمُفْرَدَةِ وَالْمُرَكَّبَةِ الَّتِي جُهِلَ مَعْنَاهَا، وَحَارَتِ الْعُقُولُ فِي مُنْتَهَاهَا‏.‏

وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي قِصَّةِ إِبْرَاهِيمَ لَمَّا سُئِلَ عَنْ كَسْرِ الْأَصْنَامِ، وَقِيلَ لَهُ‏:‏ أَنْتَ فَعَلْتَهُ‏.‏ فَقَالَ‏:‏ ‏{‏بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا‏}‏ ‏(‏الْأَنْبِيَاءِ‏:‏ 63‏)‏ قَابَلَهُمْ بِهَذِهِ الْمُعَارَضَةِ لِيُقِيمَ عَلَيْهِمُ الْحُجَّةَ، وَيُوَضِّحَ لَهُمُ الْمَحَجَّةَ‏.‏

وَكَذَلِكَ قَوْلُ نُمْرُودَ‏:‏ ‏{‏أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ‏}‏ أَتَى بِاثْنَيْنِ فَقَتَلَ أَحَدَهُمَا، وَأَرْسَلَ الْآخَرَ، فَإِنَّ هَذِهِ مُغَالَطَةٌ‏.‏

الِاسْتِطْرَادُ مِنْ أَسَالِيبِ الْقَلْبِ فِي الْقُرْآنِ

وَهُوَ التَّعْرِيضُ بِعَيْبِ إِنْسَانٍ بِذِكْرِ عَيْبِ غَيْرِهِ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ‏}‏ ‏(‏إِبْرَاهِيمَ‏:‏ 45‏)‏‏.‏

وَكَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ‏}‏ ‏(‏فُصِّلَتْ‏:‏ 13‏)‏ وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏أَلَا بُعْدًا لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ‏}‏ ‏(‏هُودٍ‏:‏ 95‏)‏‏.‏

التَّرْدِيدُ مِنْ أَسَالِيبِ الْقَلْبِ فِي الْقُرْآنِ

وَهُوَ أَنْ يُعَلِّقَ الْمُتَكَلِّمُ لَفْظَةً مِنَ الْكَلَامِ، ثُمَّ يَرُدَّهَا بِعَيْنِهَا، وَيُعَلِّقَهَا بِمَعْنًى آخَرَ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ‏}‏ ‏(‏الْأَنْعَامِ‏:‏ 124‏)‏ الْآيَةَ، فَإِنَّ الْأَوَّلَ مُضَافٌ إِلَيْهِ وَالثَّانِيَ مُبْتَدَأٌ‏.‏

وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا‏}‏ ‏(‏الرُّومِ‏:‏ 6، 7‏)‏‏.‏

وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ‏}‏ ‏(‏التَّوْبَةِ‏:‏ 108‏)‏‏.‏

وَقَدْ يُحْذَفُ أَحَدُهَا وَيُضْمَرُ، أَوْ لَا يُلَاحَظُ، عَلَى الْخِلَافِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 2‏)‏‏.‏

التَّغْلِيبُ فِي الْقُرْآنِ

وَحَقِيقَتُهُ إِعْطَاءُ الشَّيْءِ حُكْمَ غَيْرِهِ، وَقِيلَ‏:‏ تَرْجِيحُ أَحَدِ الْمَغْلُوبَيْنِ عَلَى الْآخَرِ، أَوْ إِطْلَاقُ لَفْظَةٍ عَلَيْهِمَا؛ إِجْرَاءً لِلْمُخْتَلِفَيْنِ مَجْرَى الْمُتَّفِقَيْنِ‏.‏

‏[‏أَنْوَاعُ التَّغْلِيبِ فِي الْقُرْآنِ‏]‏

وَهُوَ أَنْوَاعٌ‏:‏ أَنْوَاعُ التَّغْلِيبِ فِي الْقُرْآنِ‏:‏

الْأَوَّلُ‏:‏ تَغْلِيبُ الْمُذَكَّرِ مِنْ أَنْوَاعِ التَّغْلِيبِ فِي الْقُرْآنِ

كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ‏}‏ ‏(‏الْقِيَامَةِ‏:‏ 9‏)‏ غُلِّبَ الْمُذَكَّرُ؛ لِأَنَّ الْوَاوَ جَامِعَةٌ؛ لِأَنَّ لَفْظَ الْفِعْلِ مُقْتَضٍ، وَلَوْ أَرَدْتَ الْعَطْفَ امْتَنَعَ‏.‏

وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ‏}‏ ‏(‏التَّحْرِيمِ‏:‏ 12‏)‏‏.‏

وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ‏}‏ ‏(‏الْأَعْرَافِ‏:‏ 83‏)‏ وَالْأَصْلُ ‏"‏ مِنَ الْقَانِتَاتِ وَالْغَابِرَاتِ ‏"‏ فَعُدَّتِ الْأُنْثَى مِنَ الْمُذَكَّرِ بِحُكْمِ التَّغْلِيبِ‏.‏

هَكَذَا قَالُوا؛ وَهُوَ عَجِيبٌ؛ فَإِنَّ الْعَرَبَ تَقُولُ‏:‏ نَحْنُ مِنْ بَنِي فُلَانٍ؛ لَا تُرِيدُ إِلَّا مُوَالَاتَهُمْ، وَالتَّصْوِيبَ لِطَرِيقَتِهِمْ؛ وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ فِي الْأَشْعَرِيِّينَ‏:‏ هُمْ مِنِّي وَأَنَا مِنْهُمْ فَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ‏:‏ ‏{‏مِنَ الْقَانِتِينَ‏}‏ ‏(‏التَّحْرِيمِ‏:‏ 12‏)‏ وَلَمْ يَقُلْ‏:‏ ‏"‏ مِنَ الْقَانِتَاتِ ‏"‏ إِيذَانًا بِأَنَّ وَضْعَهَا فِي الْعِبَادِ جِدًّا وَاجْتِهَادًا وَعِلْمًا وَتَبَصُّرًا، وَرِفْعَةً مِنَ اللَّهِ لِدَرَجَاتِهَا فِي أَوْصَافِ الرِّجَالِ الْقَانِتِينَ وَطَرِيقِهِمْ‏.‏ وَنَظِيرُهُ، وَلَكِنْ بِالْعَكْسِ قَوْلُ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ لِأُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ لَمَّا أَجْمَعَ الْقُعُودَ عَنْ وَقْعَةِ بَدْرٍ؛ لِأَنَّهُ كَانَ شَيْخًا فَجَاءَ بِمِجْمَرَةٍ، فَقَالَ‏:‏ يَا أَبَا عَلِيٍّ اسْتَجْمِرْ، فَإِنَّمَا أَنْتَ مِنَ النِّسَاءِ‏.‏ فَقَالَ‏:‏ قَبَّحَكَ اللَّهُ، وَقَبَّحَ مَا جِئْتَ بِهِ، ثُمَّ تَجَهَّزَ‏.‏

وَنَازَعَ بَعْضُهُمْ فِي ذَلِكَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ فَقَالَ‏:‏ يَحْتَمِلُ أَلَّا تَكُونَ ‏"‏ مِنْ ‏"‏ لِلتَّبْعِيضِ بَلْ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ، أَيْ‏:‏ كَانَتْ نَاشِئَةً مِنَ الْقَوْمِ الْقَانِتِينَ؛ لِأَنَّهَا مِنْ أَعْقَابِ هَارُونَ أَخِي مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ‏.‏

الثَّانِي‏:‏ تَغْلِيبُ الْمُتَكَلِّمِ عَلَى الْمُخَاطَبِ وَالْمُخَاطَبِ عَلَى الْغَائِبِ مِنْ أَنْوَاعِ التَّغْلِيبِ فِي الْقُرْآنِ

فَيُقَالُ‏:‏ أَنَا وَزَيْدٌ فَعَلْنَا، وَأَنْتَ وَزَيْدٌ تَفْعَلَانِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ‏}‏ النَّمْلِ‏:‏ 55‏)‏ بِتَاءِ الْخِطَابِ، غَلَّبَ جَانِبَ ‏(‏أَنْتُمْ‏)‏ عَلَى جَانِبِ ‏"‏ قَوْمٌ ‏"‏ ‏"‏ وَالْقِيَاسُ أَنْ يَجِيءَ بِالْيَاءِ؛ لِأَنَّهُ صِفَةٌ لِـ ‏(‏قَوْمٌ‏)‏، وَ ‏(‏قَوْمٌ‏)‏ اسْمُ غَيْبَةٍ، وَلَكِنْ حَسُنَ آخِرُ الْخِطَابِ، وَصْفًا لِـ ‏(‏قَوْمٌ‏)‏ لِوُقُوعِهِ خَبَرًا عَنْ ضَمِيرِ الْمُخَاطَبِينَ ‏"‏ قَالَهُ ابْنُ الشَّجَرِيِّ‏.‏

وَلَوْ قِيلَ‏:‏ إِنَّهُ حَالٌ لِـ‏{‏فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً‏}‏ ‏(‏النَّمْلِ‏:‏ 52‏)‏ لِأَنَّ فِي ضَمِيرِ الْخِطَابِ مَعْنَى الْإِشَارَةِ لِمُلَازَمَتِهِ لَهَا أَوْ لِمَعْنَاهَا، لَكَانَ مُتَّجِهًا، وَإِنْ لَمْ تُسَاعِدْهُ الصِّنَاعَةُ، لَكِنْ يُبْعِدُهُ أَنَّ الْمُرَادَ وَصْفُهُمْ بِجَهْلٍ مُسْتَمِرٍّ، لَا مَخْصُوصٍ بِحَالِ الْخِطَابِ، وَلَمْ يَقُلْ ‏"‏ جَاهِلُونَ ‏"‏ إِيذَانًا بِأَنَّهُمْ يَتَجَدَّدُونَ عِنْدَ كُلِّ مُصِيبَةٍ لِطَلَبِ آيَاتِ جَهْلِهِمْ‏.‏

وَقَالَ أَبُو الْبَرَكَاتِ بْنُ الْأَنْبَارِيِّ‏:‏ وَلَوْ قِيلَ‏:‏ إِنَّمَا قَالَ‏:‏ تَجْهَلُونَ ‏(‏النَّمْلِ‏:‏ 52‏)‏ بِالتَّاءِ؛ لِأَنَّ ‏(‏قَوْمٌ‏)‏ هُوَ ‏(‏أَنْتُمْ‏)‏ فِي الْمَعْنَى؛ فَلِذَلِكَ قَالَ‏:‏ ‏"‏ تَجْهَلُونَ ‏"‏ حَمْلًا عَلَى الْمَعْنَى لَكَانَ حَسَنًا، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ‏:‏

أَنَا الَّذِي سَمَّتْنِي أُمِّي حَيَدَرَهْ ***

بِالْيَاءِ حَمْلًا عَلَى ‏"‏ أَنَا ‏"‏ لِأَنَّ ‏"‏ الَّذِي ‏"‏ هُوَ ‏"‏ أَنَا ‏"‏ فِي الْمَعْنَى‏.‏

وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ‏}‏ ‏(‏هُودٍ‏:‏ 112‏)‏ غُلِّبَ فِيهِ جَانِبُ ‏"‏ أَنْتَ ‏"‏ عَلَى جَانِبِ ‏"‏ مَنْ ‏"‏ فَأُسْنِدَ إِلَيْهِ الْفِعْلُ، وَكَانَ تَقْدِيرُهُ ‏"‏ فَاسْتَقِيمُوا ‏"‏، فَغُلِّبَ الْخِطَابُ عَلَى الْغَيْبَةِ؛ لِأَنَّ حَرْفَ الْعَطْفِ فَصَلَ بَيْنَ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِمُ الْفِعْلُ، فَصَارَ كَمَا تَرَى‏.‏ قَالَ صَاحِبُ ‏"‏ الْكَشَّافِ ‏"‏‏:‏ تَقْدِيرُهُ‏:‏ ‏"‏ فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ، وَلْيَسْتَقِمْ كَذَلِكَ مَنْ تَابَ مَعَكَ ‏"‏‏.‏

وَمَا قُلْنَا أَقَلُّ تَقْدِيرًا مِنْ هَذَا؛ فَاخْتَرْ أَيَّهُمَا شِئْتَ‏.‏

وَقَوْلُهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ‏}‏ ‏(‏الْإِسْرَاءِ‏:‏ 63‏)‏ فَأَعَادَ الضَّمِيرَ بِلَفْظِ الْخِطَابِ، وَإِنْ كَانَ ‏"‏ مَنْ تَبِعَكَ ‏"‏ يَقْتَضِي الْغَيْبَةَ تَغْلِيبًا لِلْمُخَاطَبِ، وَجُعِلَ الْغَائِبُ تَبَعًا لَهُ كَمَا كَانَ تَبَعًا لَهُ فِي الْمَعْصِيَةِ وَالْعُقُوبَةِ، فَحَسُنَ أَنْ يُجْعَلَ تَبَعًا لَهُ فِي اللَّفْظِ، وَهُوَ مِنْ مَحَاسِنِ ارْتِبَاطِ اللَّفْظِ بِالْمَعْنَى‏.‏

وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 21‏)‏ فَإِنَّ الْخِطَابَ فِي ‏(‏لَعَلَّكُمْ‏)‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 21‏)‏ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ‏:‏ خَلَقَكُمْ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 21‏)‏ لَا بِقَوْلِهِ‏:‏ اعْبُدُوا ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 21‏)‏ حَتَّى يُخْتَصَّ بِالنَّاسِ الْمُخَاطَبِينَ، إِذْ لَا مَعْنَى لِقَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏ اعْبُدُوا لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ‏"‏‏.‏

وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ‏}‏ ‏(‏هُودٍ‏:‏ 123‏)‏ فِيمَنْ قَرَأَ بِالتَّاءِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِـ ‏"‏ مَا تَعْمَلُونَ ‏"‏ الْخَلْقَ كُلَّهُمْ، وَالْمُخَاطَبُ النَّبِيُّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَكُلُّ سَامِعٍ أَبَدًا، فَيَكُونُ تَغْلِيبًا، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُعْتَبَرَ خِطَابُ مَنْ سِوَاهُ بِدُونِهِ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ التَّغْلِيبِ، لِامْتِنَاعِ أَنْ يُخَاطَبَ فِي كَلَامٍ وَاحِدٍ اثْنَانِ أَوْ أَكْثَرُ مِنْ غَيْرِ عَطْفٍ أَوْ تَثْنِيَةٍ أَوْ جَمْعٍ‏.‏

وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى‏.‏‏.‏‏.‏

الثَّالِثُ‏:‏ تَغْلِيبُ الْعَاقِلِ عَلَى غَيْرِهِ مِنْ أَنْوَاعِ التَّغْلِيبِ فِي الْقُرْآنِ

بِأَنْ يَتَقَدَّمَ لَفْظٌ يَعُمُّ مَنْ يَعْقِلُ وَمَنْ لَا يَعْقِلُ، فَيُطْلَقُ اللَّفْظُ الْمُخْتَصُّ بِالْعَاقِلِ عَلَى الْجَمِيعِ، كَمَا تَقُولُ‏:‏ ‏"‏ خَلَقَ اللَّهُ النَّاسَ وَالْأَنْعَامَ وَرَزَقَهُمْ ‏"‏ فَإِنَّ لَفْظَ ‏"‏ هُمْ ‏"‏ مُخْتَصٌّ بِالْعُقَلَاءِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ‏}‏ ‏(‏النُّورِ‏:‏ 45‏)‏ لَمَّا تَقَدَّمَ لَفْظُ الدَّابَّةِ، وَالْمُرَادُ بِهَا عُمُومُ مَنْ يَعْقِلُ وَمَنْ لَا يَعْقِلُ غُلِّبَ مَنْ يَعْقِلُ، فَقَالَ‏:‏ ‏{‏فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي‏}‏ ‏(‏النُّورِ‏:‏ 45‏)‏‏.‏

فَإِنْ قِيلَ‏:‏ هَذَا صَحِيحٌ فِي ‏"‏ فَمِنْهُمْ ‏"‏ لِأَنَّهُ لِمَنْ يَعْقِلُ، وَهُوَ رَاجِعٌ إِلَى الْجَمِيعِ، فَلِمَ قَالَ‏:‏ ‏"‏ مَنْ ‏"‏ وَهُوَ لَا يَقَعُ عَلَى الْعَامِّ؛ بَلْ خَاصٌّ بِالْعَاقِلِ‏؟‏

قُلْتُ‏:‏ ‏"‏ مَنْ ‏"‏ هُنَا بَعْضُ ‏"‏ هُمْ ‏"‏، وَهُوَ ضَمِيرُ مَنْ يَعْقِلُ‏.‏

فَإِنْ قُلْتَ‏:‏ فَكَيْفَ يَقَعُ عَلَى بَعْضِهِ لَفْظُ مَا لَا يَعْقِلُ‏؟‏

قُلْتُ‏:‏ ‏"‏ مَنْ ‏"‏ هُنَا قَالَ أَبُو عُثْمَانَ‏:‏ إِنَّهُ تَغْلِيبٌ مِنْ غَيْرِ عُمُومِ لَفْظٍ مُتَقَدِّمٍ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ يَقُولُ‏:‏ رَأَيْتُ ثَلَاثَةً‏:‏ زَيْدًا وَعَمْرًا وَحِمَارًا‏.‏

وَقَالَ ابْنُ الضَّائِعِ‏:‏ ‏"‏ هُمْ ‏"‏ لَا تَقَعُ إِلَّا عَلَى مَنْ يَعْقِلُ، فَلَمَّا أَعَادَ الضَّمِيرَ عَلَى ‏"‏ كُلِّ دَابَّةٍ ‏"‏ غَلَّبَ مَنْ يَعْقِلُ فَقَالَ‏:‏ ‏"‏ هُمْ ‏"‏ وَ ‏"‏ مَنْ ‏"‏ بَعْضُ هَذَا الضَّمِيرِ؛ وَهُوَ لِلْعَاقِلِ، فَلَزِمَ أَنْ يَقُولَ ‏"‏ مَنْ ‏"‏ فَلَمَّا قَالَ‏:‏ ‏"‏ مَنْ ‏"‏ لِوُقُوعِ التَّغْلِيبِ فِي الضَّمِيرِ، صَارَ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ حُكْمُهُ حُكْمَ الْعَاقِلِينَ؛ فَتَمَّمَ ذَلِكَ بِأَنْ أَوْقَعَ ‏"‏ مَنْ ‏"‏‏.‏

وَقَوْلُهُ تَعَالَى حَاكِيًا عَنِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ‏:‏ ‏{‏قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ‏}‏ ‏(‏فُصِّلَتْ‏:‏ 11‏)‏ إِنَّمَا جَمَعَهُمَا جَمْعَ السَّلَامَةِ وَلَمْ يَقُلْ ‏"‏ طَائِعِينَ ‏"‏ وَلَا ‏"‏ طَائِعَاتٍ ‏"‏؛ لِأَنَّهُ أَرَادَ‏:‏ ائْتِيَا بِمَنْ فِيكُمْ مِنَ الْخَلَائِقِ طَائِعِينَ، فَخَرَجَتِ الْحَالُ عَلَى لَفْظِ الْجَمْعِ، وَغُلِّبَ مَنْ يَعْقِلُ مِنَ الذُّكُورِ‏.‏

وَقَالَ بَعْضُ النَّحْوِيِّينَ‏:‏ لَمَّا أَخْبَرَ عَنْهُمَا أَنَّهُمَا يَقُولَانِ كَمَا يَقُولُ الْآدَمِيُّونَ أَشْبَهَتَا الذُّكُورَ مِنْ بَنِي آدَمَ، وَإِنَّمَا قَالَ‏:‏ ‏"‏ طَائِعِينَ ‏"‏ وَلَمْ يَقُلْ‏:‏ ‏"‏ مُطِيعِينَ ‏"‏؛ لِأَنَّهُ مِنْ ‏(‏طِعْنَا‏)‏ أَيِ انْقَدْنَا، وَلَيْسَ مِنْ ‏(‏أَطَعْنَا‏)‏ يُقَالُ‏:‏ طَاعَتِ النَّاقَةُ تَطُوعُ طَوْعًا‏:‏ إِذَا انْقَادَتْ‏.‏

وَقَوْلُهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 116‏)‏ قِيلَ‏:‏ أَوْقَعَ ‏"‏ مَا ‏"‏ لِأَنَّهَا تَقَعُ عَلَى أَنْوَاعِ مَنْ يَعْقِلُ؛ لِأَنَّهُ إِذَا اجْتَمَعَ مَنْ يَعْقِلُ وَمَا لَا يَعْقِلُ فَغُلِّبَ مَا لَا يَعْقِلُ كَانَ الْأَمْرُ بِالْعَكْسِ، وَيُنَاقِضُهُ‏:‏ ‏{‏كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 116‏)‏‏.‏

وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ‏:‏ جَاءَ بِـ ‏"‏ مَا ‏"‏ تَحْقِيرًا لِشَأْنِهِمْ وَتَصْغِيرًا، قَالَ‏:‏ ‏"‏ لَهُ قَانِتُونَ ‏"‏ تَعْظِيمٌ‏.‏

وَرَدَّ عَلَيْهِ ابْنُ الضَّائِعِ بِصِحَّةِ وُقُوعِهَا عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، قَالَ‏:‏ وَهَذَا غَايَةُ الْخَطَأِ، وَقَوْلُهُ فِي دُعَاءِ الْأَصْنَامِ‏:‏ ‏{‏هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ‏}‏ ‏(‏الشُّعَرَاءِ‏:‏ 72‏)‏‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا‏}‏ ‏(‏فُصِّلَتْ‏:‏ 21‏)‏‏.‏

وَأَمَّا قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ‏}‏ ‏(‏الشُّعَرَاءِ‏:‏ 4‏)‏ وَقَوْلُهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ‏}‏ ‏(‏يس‏:‏ 40‏)‏ ‏{‏لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ‏}‏ ‏(‏الْأَنْبِيَاءِ‏:‏ 65‏)‏‏.‏

‏{‏إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ‏}‏ ‏(‏يُوسُفَ‏:‏ 4‏)‏ ‏{‏لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا‏}‏ ‏(‏الْأَنْبِيَاءِ‏:‏ 99‏)‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ‏}‏ ‏(‏النَّمْلِ‏:‏ 18‏)‏ لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا أَخْبَرَ عَنْهَا بِأَخْبَارِ الْآدَمِيِّينَ جَرَى ضَمِيرُهَا عَلَى حَدِّ مَنْ يَعْقِلُ، وَكَذَا الْبَوَاقِي‏.‏

فَإِنْ قِيلَ‏:‏ فَقَدْ غُلِّبَ غَيْرُ الْعَاقِلِ عَلَى الْعَاقِلِ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ‏}‏ ‏(‏النَّحْلِ‏:‏ 49‏)‏ فَإِنَّهُ لَوْ غُلِّبَ الْعَاقِلُ عَلَى غَيْرِ الْعَاقِلِ لَأَتَى بِـ ‏"‏ مَنْ ‏"‏‏.‏

فَالْجَوَابُ أَنَّ هَذَا الْمَوْضِعَ غُلِّبَ فِيهِ مَنْ يَعْقِلُ، وَعُبِّرَ عَنْ ذَلِكَ بِـ ‏"‏ مَا ‏"‏؛ لِأَنَّهَا وَاقِعَةٌ عَلَى أَجْنَاسِ مَنْ يَعْقِلُ وَمَنْ لَا يَعْقِلُ، وَقَدْ يَقَعُ عَلَى أَجْنَاسِ مَنْ يَعْقِلُ خَاصَّةً، كَهَذِهِ الْآيَةِ‏.‏

وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ‏}‏ ‏(‏الْمَائِدَةِ‏:‏ 120‏)‏ وَلَمْ يَقُلْ‏:‏ ‏"‏ وَمَنْ فِيهِنَّ ‏"‏ قِيلَ‏:‏ لِأَنَّ كَلِمَةَ ‏"‏ مَا ‏"‏ تَتَنَاوَلُ الْأَجْنَاسَ كُلَّهَا تَنَاوُلًا عَامًّا بِأَصْلِ الْوَضْعِ، وَ ‏"‏ مَنْ ‏"‏ لَا تَتَنَاوَلُ غَيْرَ الْعُقَلَاءِ بِأَصْلِ الْوَضْعِ، فَكَانَ اسْتِعْمَالُ ‏(‏مَا‏)‏ هُنَا أَوْلَى‏.‏

وَقَدْ يَجْتَمِعُ فِي لَفْظٍ وَاحِدٍ تَغْلِيبُ الْمُخَاطَبِ عَلَى الْغَائِبِ، وَالْعُقَلَاءِ عَلَى غَيْرِهِمْ، كَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ‏}‏ ‏(‏الشُّورَى‏:‏ 11‏)‏ أَيْ‏:‏ خَلَقَ لَكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ مِنْ جِنْسِكُمْ ذُكُورًا وَإِنَاثًا، وَخَلَقَ الْأَنْعَامَ أَيْضًا مِنْ أَنْفُسِهَا ذُكُورًا وَإِنَاثًا، ‏"‏ يَذْرَؤُكُمْ ‏"‏ أَيْ‏:‏ يُنْبِتُكُمْ وَيُكَثِّرُكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ، فِي هَذَا التَّدْبِيرِ وَالْجَعْلِ، فَهُوَ خِطَابٌ لِلْجَمِيعِ؛ لِلنَّاسِ الْمُخَاطَبِينَ وَلِلْأَنْعَامِ الْمَذْكُورَةِ بِلَفْظِ الْغَيْبَةِ، فَفِيهِ تَغْلِيبُ الْمُخَاطَبِ عَلَى الْغَائِبِ، وَإِلَّا لَمَا صَحَّ ذِكْرُ الْجَمِيعِ- أَعَنَى النَّاسَ وَالْأَنْعَامَ- بِطَرِيقِ الْخِطَابِ؛ لِأَنَّ الْأَنْعَامَ غَيْبٌ، وَتَغْلِيبُ الْعُقَلَاءِ عَلَى غَيْرِهِمْ، وَإِلَّا لَمَا صَحَّ خِطَابُ الْجَمْعِ بِلَفْظِ ‏"‏ كُمْ ‏"‏ الْمُخْتَصِّ بِالْعُقَلَاءِ‏.‏ فَفِي لَفْظِ ‏"‏ كُمْ ‏"‏ تَغْلِيبَانِ، وَلَوْلَا التَّغْلِيبُ لَكَانَ الْقِيَاسُ أَنْ يُقَالَ‏:‏ ‏"‏ يَذْرَؤُكُمْ وَإِيَّاهَا ‏"‏ هَكَذَا قَرَّرَهُ السَّكَّاكِيُّ وَالزَّمَخْشَرِيُّ‏.‏

وَنُوزِعَا فِيهِ؛ بِأَنَّ جَعْلَ الْخِطَابِ شَامِلًا لِلْأَنْعَامِ تَكَلُّفٌ لَا حَاجَةَ إِلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْغَرَضَ إِظْهَارُ الْقُدْرَةِ وَبَيَانُ الْأَلْطَافِ فِي حَقِّ النَّاسِ، فَالْخِطَابُ مُخْتَصٌّ بِهِمْ، وَالْمَعْنَى‏:‏ يُكَثِّرُكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ فِي التَّدْبِيرِ حَيْثُ مَكَّنَكُمْ مِنَ التَّوَالُدِ وَالتَّنَاسُلِ، وَهَيَّأَ لَكُمْ مِنْ مَصَالِحِكُمْ مَا تَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ فِي تَرْتِيبِ الْمَعَاشِ، وَتَدْبِيرِ التَّوَالُدِ، ‏"‏ وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ ‏"‏ وَجَعَلَهَا أَزْوَاجًا تَبْقَى بِبَقَائِكُمْ، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ التَّقْدِيرُ‏:‏ وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا، وَهَذَا أَنْسَبُ بِنَظْمِ الْكَلَامِ مِمَّا قَرَّرُوهُ، وَهُوَ جَعْلُ الْأَنْعَامِ أَنْفُسِهَا أَزْوَاجًا‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ‏}‏ ‏(‏الشُّورَى‏:‏ 11‏)‏ أَيْ‏:‏ فِي هَذَا التَّدْبِيرِ؛ كَأَنَّهُ مَحَلٌّ لِذَلِكَ، وَلَمْ يَقُلْ ‏"‏ بِهِ ‏"‏ كَمَا قَالَ‏:‏ ‏{‏وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 179‏)‏ لِأَنَّهُ مَسُوقٌ لِإِظْهَارِ الِاقْتِدَارِ مَعَ الْوَحْدَانِيَّةِ، فَأَسْقَطَ بَاءَ السَّبَبِيَّةِ، وَأَثْبَتَ ‏"‏ فِي ‏"‏ الظَّرْفِيَّةَ، وَهَذَا وَجْهٌ مِنْ إِعْجَازِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 179‏)‏ لِأَنَّ الْحَيَاةَ مِنْ شَأْنِهَا الِاسْتِنَادُ إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ لَا إِلَى غَيْرِهِ، فَاخْتِيرَتْ ‏(‏فِي‏)‏ عَلَى الْبَاءِ؛ لِأَنَّهُ مَسُوقٌ لِبَيَانِ التَّرْغِيبِ، وَالْمَعْنَى مَفْهُومٌ، وَالْقِصَاصُ مَسُوقٌ لِلتَّجْوِيزِ وَحُسْنِ الْمَشْرُوعِيَّةِ ‏{‏وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 237‏)‏‏.‏

الرَّابِعُ‏:‏ تَغْلِيبُ الْمُتَّصِفِ بِالشَّيْءِ عَلَى مَا لَمْ يَتَّصِفْ بِهِ مِنْ أَنْوَاعِ التَّغْلِيبِ فِي الْقُرْآنِ

كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 23‏)‏ قِيلَ‏:‏ غَلَّبَ غَيْرِ الْمُرْتَابِينَ عَلَى الْمُرْتَابِينَ، وَاعْتُرِضَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 23‏)‏ وَهَذَا خِطَابٌ لِلْكُفَّارِ فَقَطْ قَطْعًا، فَهُمُ الْمُخَاطَبُونَ أَوَّلًا بِذَلِكَ، ثُمَّ ‏"‏ إِنَّ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ‏"‏ لَا يَتَمَيَّزُ فِيهَا التَّغْلِيبُ، ثُمَّ هِيَ شَاهِدَةٌ بِأَنَّ الْمُتَكَلِّمَ مَعَهُمْ يَخُصُّ الْجَاحِدِينَ بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 23‏)‏ وَإِذَا لَمْ يَكُنِ الْخِطَابُ إِلَّا فِيهِمْ فَتَغْلِيبُ حَالِ مَنْ لَمْ يَدْخُلْ فِي الْخِطَابِ لَا عَهْدَ بِهِ فِي مُخَاطَبَاتِ الْعَرَبِ، ثُمَّ أَوْضَحَ لِبَعْضِهَا هُنَا لِأَنَّ جَوَازَ ‏"‏ إِنْ ‏"‏ يَتَنَاوَلُ الْمَشْكُوكَ، وَغَيْرُ الْمُرْتَابِينَ عَالِمِينَ، فَلَا يَسْتَحِقُّ حَالُهُمْ ‏"‏ إِنْ ‏"‏ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ لِلتَّهَيُّجِ زِيَادَةٌ فِي التَّعْجِيزِ‏.‏

الْخَامِسُ‏:‏ تَغْلِيبُ الْأَكْثَرِ عَلَى الْأَقَلِّ مِنْ أَنْوَاعِ التَّغْلِيبِ فِي الْقُرْآنِ

بِأَنْ يُنْسَبَ إِلَى الْجَمِيعِ وَصْفٌ يَخْتَصُّ بِالْأَكْثَرِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا‏}‏ ‏(‏الْأَعْرَافِ‏:‏ 88‏)‏ أُدْخِلَ شُعَيْبٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏لَتَعُودُنَّ‏)‏ بِحُكْمِ التَّغْلِيبِ، إِذْ لَمْ يَكُنْ فِي مِلَّتِهِمْ أَصْلًا حَتَّى يَعُودَ إِلَيْهَا، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ‏}‏ ‏(‏الْأَعْرَافِ‏:‏ 89‏)‏ وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ ‏(‏عَادَ‏)‏ بِمَعْنَى صَارَ لُغَةٌ مَعْرُوفَةٌ، وَأَنْشَدُوا‏:‏

فَإِنْ تَكُنِ الْأَيَّامُ أَحْسَنَ مَرَّةً *** إِلَيَّ فَقَدْ عَادَتْ لَهُنَّ ذُنُوبُ

وَلَا حُجَّةَ فِيهِ؛ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ ضَمِيرُ ‏"‏ الْأَيَّامِ ‏"‏ فَاعِلُ ‏"‏ عَادَتْ ‏"‏، وَإِنَّمَا الشَّاهِدُ فِي قَوْلِ أُمَيَّةَ‏:‏

تِلْكَ الْمَكَارِمُ لَا قَعْبَانِ مِنْ لَبَنٍ *** شِيبَا بِمَاءٍ فَعَادَا بَعْدُ أَبْوَالَا

وَيَحْتَمِلُ جَوَابًا ثَالِثًا؛ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُمْ لِشُعَيْبٍ ذَلِكَ مِنْ تَعَنُّتِهِمْ وَبُهْتَانِهِمْ وَادِّعَائِهِمْ أَنَّ شُعَيْبًا كَانَ عَلَى مِلَّتِهِمْ، لَا كَمَا قَالَ فِرْعَوْنُ لِمُوسَى‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا‏}‏ ‏(‏الْأَعْرَافِ‏:‏ 89‏)‏ كِنَايَةٌ عَنْ أَتْبَاعِهِ لِمُجَرَّدِ فَائِدَتِهِمْ، وَأَنَّهُ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِنْ قَالَ ذَلِكَ عَنْ نَفْسِهِ وَأَتْبَاعِهِ فَقَدِ اسْتَثْنَى، وَالْمُعَلَّقُ بِالْمَشِيئَةِ لَا يَلْزَمُ إِمْكَانُهُ شَرْعًا تَقْدِيرًا، وَالِاعْتِرَافُ بِالْقُدْرَةِ وَالرُّجُوعُ لِعِلْمِهِ سُبْحَانَهُ وَإِنْ عَلِمَ الْعَبْدُ عِصْمَةَ نَفْسِهِ أَدَبًا مَعَ رَبِّهِ لَا شَكًّا‏.‏

وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالْعَوْدِ فِي مِلَّتِهِمْ مُجَرَّدُ الْمُسَاكَنَةِ وَالِاخْتِلَاطِ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا‏}‏ ‏(‏الْأَعْرَافِ‏:‏ 89‏)‏ وَنَظِيرُهُ‏:‏ ‏{‏وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا‏}‏ ‏(‏آلِ عِمْرَانَ‏:‏ 55‏)‏ وَيَكُونُ ذَلِكَ إِشَارَةً إِلَى الْهِجْرَةِ عَنْهُمْ، وَتَرْكِ الْإِجَابَةِ لَهُمْ، لَا جَوَابًا لَهُمْ، وَفِيهِ بُعْدٌ‏.‏

السَّادِسُ‏:‏ تَغْلِيبُ الْجِنْسِ الْكَثِيرِ الْأَفْرَادِ عَلَى فَرْدٍ مِنْ غَيْرِ هَذَا الْجِنْسِ

مِنْ أَنْوَاعِ التَّغْلِيبِ فِي الْقُرْآنِ مَغْمُوزٌ فِيمَا بَيْنَهُمْ بِأَنْ يُطْلَقَ اسْمُ الْجِنْسِ عَلَى الْجَمِيعِ

كَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِيسَ‏}‏ ‏(‏ص‏:‏ 73- 74‏)‏ وَأَنَّهُ عُدَّ مِنْهُمْ؛ مَعَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْجِنِّ تَغْلِيبًا؛ لِكَوْنِهِ جِنِّيًّا وَاحِدًا فِيمَا بَيْنَهُمْ، وَلِأَنَّ حَمْلَ الِاسْتِثْنَاءِ عَلَى الِاتِّصَالِ هُوَ الْأَصْلُ، وَيَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ مِنْ غَيْرِ الْمَلَائِكَةِ مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ‏:‏ خُلِقَتِ الْمَلَائِكَةُ مِنْ نُورٍ وَالْجِنُّ مِنَ النَّارِ‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ إِنَّهُ كَانَ مَلَكًا فَسُلِبَ الْمَلَكِيَّةَ، وَأُجِيبَ عَنْ كَوْنِهِ مِنَ الْجِنِّ بِأَنَّهُ اسْمٌ لِنَوْعٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ‏.‏

قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ‏:‏ كَانَ مُخْتَلِطًا بِهِمْ، فَحِينَئِذٍ عَمَّتْهُ الدَّعْوَةُ بِالْخُلْطَةِ لَا بِالْجِنْسِ، فَيَكُونُ مِنْ تَغْلِيبِ الْأَكْثَرِ‏.‏

هَذَا إِنْ جَعَلْنَا الِاسْتِثْنَاءَ مُتَّصِلًا، وَلَمْ يُجْعَلْ ‏(‏إِلَّا‏)‏ بِمَعْنَى ‏(‏لَكِنْ‏)‏‏.‏

وَقَالَ ابْنُ جِنِّيٍّ فِي ‏"‏ الْقَدِّ ‏"‏‏:‏ قَالَ أَبُو الْحَسَنِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ‏}‏ ‏(‏الْمَائِدَةِ‏:‏ 116‏)‏ وَإِنَّمَا الْمُتَّخَذُ إِلَهًا عِيسَى دُونَ أُمِّهِ، فَهُوَ مِنْ بَابِ‏:‏

لَنَا قَمَرَاهَا وَالنُّجُومُ الطَّوَالِعُ ***

السَّابِعُ‏:‏ تَغْلِيبُ الْمَوْجُودِ عَلَى مَا لَمْ يُوجَدْ مِنْ أَنْوَاعِ التَّغْلِيبِ فِي الْقُرْآنِ‏.‏

كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 4‏)‏ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ‏:‏ فَإِنَّ الْمُرَادَ الْمُنَزَّلُ كُلُّهُ، وَإِنَّمَا عُبِّرَ عَنْهُ بِلَفْظِ الْمُضِيِّ وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُ مُتَرَقَّبًا؛ تَغْلِيبًا لِلْمَوْجُودِ عَلَى مَا لَمْ يُوجَدْ‏.‏

الثَّامِنُ‏:‏ تَغْلِيبُ الْإِسْلَامِ مِنْ أَنْوَاعِ التَّغْلِيبِ فِي الْقُرْآنِ

كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ‏}‏ ‏(‏الْأَحْقَافِ‏:‏ 19‏)‏ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ‏:‏ ‏"‏ لِأَنَّ الدَّرَجَاتِ لِلْعُلُوِّ وَالدَّرَكَاتِ لِلسُّفْلِ، فَاسْتُعْمِلَ ‏(‏الدَّرَجَاتُ‏)‏ فِي الْقِسْمَيْنِ تَغْلِيبًا ‏"‏‏.‏

التَّاسِعُ‏:‏ تَغْلِيبُ مَا وَقَعَ بِوَجْهٍ مَخْصُوصٍ عَلَى مَا وَقَعَ بِغَيْرِ هَذَا الْوَجْهِ مِنْ أَنْوَاعِ التَّغْلِيبِ فِي الْقُرْآنِ

كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ‏}‏ ‏(‏آلِ عِمْرَانَ‏:‏ 182‏)‏ ‏"‏ ذَكَرَ الْأَيْدِيَ لِأَنَّ أَكْثَرَ الْأَعْمَالِ تُزَاوَلُ بِهَا، فَحَصَلَ الْجَمْعُ بِالْوَاقِعِ بِالْأَيْدِي، تَغْلِيبًا ‏"‏‏.‏ أَشَارَ إِلَيْهِ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي آخِرِ آلِ عِمْرَانَ‏.‏

وَيُشَاكِلُهُ مَا أَنْشَدَهُ الْغَزْنَوِيُّ فِي ‏"‏ الْعَادِيَاتِ ‏"‏ لِصَفِيَّةَ بِنْتِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ‏:‏

فَلَا وَالْعَادِيَاتِ غَدَاةَ جَمْعٍ *** بِأَيْدِيهَا إِذَا سَطَعَ الْغُبَارُ

الْعَاشِرُ‏:‏ تَغْلِيبُ الْأَشْهَرِ مِنْ أَنْوَاعِ التَّغْلِيبِ فِي الْقُرْآنِ

كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ‏}‏ ‏(‏الزُّخْرُفِ‏:‏ 38‏)‏ أَرَادَ الْمَشْرِقَ وَالْمَغْرِبَ، فَغَلَّبَ الْمَشْرِقَ لِأَنَّهُ أَشْهَرُ الْجِهَتَيْنِ، قَالَهُ ابْنُ الشَّجَرِيِّ، وَسَيَأْتِي فِيهِ وَجْهٌ آخَرُ‏.‏

فَائِدَتَانِ‏:‏

إِحْدَاهُمَا‏:‏ جَمِيعُ بَابِ التَّغْلِيبِ مِنَ الْمَجَازِ؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ لَمْ يُسْتَعْمَلْ فِيمَا وُضِعَ لَهُ، أَلَا تَرَى أَنَّ ‏(‏الْقَانِتِينَ‏)‏ مَوْضُوعٌ لِلذُّكُورِ الْمَوْصُوفِينَ بِهَذَا الْوَصْفِ، فَإِطْلَاقُهُ عَلَى الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ عَلَى غَيْرِ مَا وُضِعَ لَهُ، وَقِسْ عَلَى هَذَا جَمِيعَ الْأَمْثِلَةِ السَّابِقَةِ‏.‏

الثَّانِيَةُ‏:‏

الْغَالِبُ مِنَ التَّغْلِيبِ أَنْ يُرَاعَى الْأَشْرَفُ كَمَا سَبَقَ، وَلِهَذَا قَالُوا فِي تَثْنِيَةِ الْأَبِ وَالْأُمِّ‏:‏ أَبَوَانِ، وَفِي تَثْنِيَةِ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ‏:‏ الْمَشْرِقَيْنِ؛ لِأَنَّ الشَّرْقَ دَالٌّ عَلَى الْوُجُودِ، وَالْغَرْبَ دَالٌّ عَلَى الْعَدَمِ، وَالْوُجُودُ لَا مَحَالَةَ أَشْرَفُ، وَكَذَلِكَ الْقَمَرَانِ، قَالَ‏:‏

لَنَا قَمَرَاهَا وَالنُّجُومُ الطَّوَالِعُ ***

أَرَادَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ، فَغَلَّبَ الْقَمَرَ لِشَرَفِ التَّذْكِيرِ، وَأَمَّا قَوْلُهُمْ‏:‏ سُنَّةُ الْعُمَرَيْنِ، يُرِيدُونَ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ، قَالَ ابْنُ سِيدَهْ فِي ‏"‏ الْمُحْكَمِ ‏"‏‏:‏ إِنَّمَا فَعَلُوا ذَلِكَ إِيثَارًا لِلْخِفَّةِ؛ أَيْ‏:‏ غُلِّبَ الْأَخَفُّ عَلَى الْأَثْقَلِ؛ لِأَنَّ لَفْظَ ‏"‏ عُمَرَ ‏"‏ مُفْرَدٌ، وَلَفْظَ أَبِي بَكْرٍ مُرَكَّبٌ‏.‏

وَذَكَرَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي ‏"‏ غَرِيبِ الْحَدِيثِ ‏"‏ أَنَّ ذَلِكَ لِلشُّهْرَةِ وَطُولِ الْمُدَّةِ‏.‏

وَذَكَرَ غَيْرُهُمَا أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَعَلَى هَذَا فَلَا تَغْلِيبَ‏.‏

وَرُدَّ بِأَنَّهُمْ نَطَقُوا بِالْعُمَرَيْنِ قَبْلَ أَنْ يَعْرِفُوا عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ فَقَالُوا يَوْمَ الْجَمَلِ لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ‏:‏ أَعْطِنَا سُنَّةَ الْعُمَرَيْنِ‏.‏

الِالْتِفَاتُ فِي الْقُرْآنِ

وَفِيهِ مَبَاحِثُ‏:‏

الْأَوَّلُ‏:‏ فِي حَقِيقَتِهِ

الِالْتِفَاتُ‏:‏ وَهُوَ نَقْلُ الْكَلَامِ مِنْ أُسْلُوبٍ إِلَى أُسْلُوبٍ آخَرَ؛ تَطْرِيَةً وَاسْتِدْرَارًا لِلسَّامِعِ، وَتَجْدِيدًا لِنَشَاطِهِ، وَصِيَانَةً لِخَاطِرِهِ مِنَ الْمَلَالِ وَالضَّجَرِ بِدَوَامِ الْأُسْلُوبِ الْوَاحِدِ عَلَى سَمْعِهِ، كَمَا قِيلَ‏:‏

لَا يُصْلِحُ النَّفْسَ إِنْ كَانَتْ مُصَرَّفَةً *** إِلَّا التَّنَقُّلُ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالِ

قَالَ حَازِمٌ فِي ‏"‏ مِنْهَاجِ الْبُلَغَاءِ ‏"‏ وَهُمْ يَسْأَمُونَ الِاسْتِمْرَارَ عَلَى ضَمِيرِ مُتَكَلِّمٍ أَوْ ضَمِيرِ مُخَاطَبٍ، فَيَنْتَقِلُونَ مِنَ الْخِطَابِ إِلَى الْغَيْبَةِ، وَكَذَلِكَ أَيْضًا يَتَلَاعَبُ الْمُتَكَلِّمُ بِضَمِيرِهِ، فَتَارَةً يَجْعَلُهُ يَاءً عَلَى جِهَةِ الْإِخْبَارِ عَنْ نَفْسِهِ، وَتَارَةً يَجْعَلُهُ كَافًا أَوْ تَاءً، فَيَجْعَلُ نَفْسَهُ مُخَاطَبًا، وَتَارَةً يَجْعَلُهُ هَاءً فَيُقِيمُ نَفْسَهُ مَقَامَ الْغَائِبِ، فَلِذَلِكَ كَانَ الْكَلَامُ الْمُتَوَالِي فِيهِ ضَمِيرُ الْمُتَكَلِّمِ وَالْمُخَاطَبِ لَا يُسْتَطَابُ؛ وَإِنَّمَا يَحْسُنُ الِانْتِقَالُ مِنْ بَعْضِهَا إِلَى بَعْضٍ، وَهُوَ نَقْلٌ مَعْنَوِيٌّ لَا لَفْظِيٌّ، وَشَرْطُهُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ فِي الْمُتَنَقَّلِ إِلَيْهِ عَائِدًا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ إِلَى الْمُلْتَفَتِ عَنْهُ؛ لِيَخْرُجَ نَحْوُ‏:‏ أَكْرِمْ زَيْدًا وَأَحْسِنْ إِلَيْهِ، فَضَمِيرُ ‏"‏ أَنْتَ ‏"‏ الَّذِي هُوَ فِي ‏(‏أَكْرِمْ‏)‏ غَيْرُ الضَّمِيرِ فِي ‏"‏ إِلَيْهِ ‏"‏‏.‏

وَاعْلَمْ أَنَّ لِلتَّكَلُّمِ وَالْخَطَابِ وَالْغَيْبَةِ مَقَامَاتٍ، وَالْمَشْهُورُ أَنَّ الِالْتِفَاتَ هُوَ الِانْتِقَالُ مِنْ أَحَدِهَا إِلَى الْآخَرِ بَعْدَ التَّعْبِيرِ بِالْأَوَّلِ‏.‏

وَقَالَ السَّكَّاكِيُّ‏:‏ إِمَّا ذَلِكَ وَإِمَّا التَّعْبِيرُ بِأَحَدِهِمَا فِيمَا حَقُّهُ التَّعْبِيرُ بِغَيْرِهِ‏.‏

الْبَحْثُ الثَّانِي فِي أَقْسَامِهِ

أَقْسَامُ الِالْتِفَاتِ فِي الْقُرْآنِ، وَهِيَ كَثِيرَةٌ‏:‏

الْأَوَّلُ‏:‏ الِالْتِفَاتُ مِنَ التَّكَلُّمِ إِلَى الْخِطَابِ مِنْ أَقْسَامِ الِالْتِفَاتِ فِي الْقُرْآنِ

وَوَجْهُهُ حَثُّ السَّامِعِ وَبَعْثُهُ عَلَى الِاسْتِمَاعِ، حَيْثُ أَقْبَلَ الْمُتَكَلِّمُ عَلَيْهِ، وَأَنَّهُ أَعْطَاهُ فَضْلَ عِنَايَةٍ وَتَخْصِيصٍ بِالْمُوَاجَهَةِ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ‏}‏ ‏(‏يس‏:‏ 22‏)‏ الْأَصْلُ‏:‏ ‏"‏ وَإِلَيْهِ أَرْجِعُ ‏"‏، فَالْتَفَتَ مِنَ التَّكَلُّمِ إِلَى الْخِطَابِ، وَفَائِدَتُهُ أَنَّهُ أَخْرَجَ الْكَلَامَ فِي مَعْرِضِ مُنَاصَحَتِهِ لِنَفْسِهِ وَهُوَ يُرِيدُ نُصْحَ قَوْمِهِ، تَلَطُّفًا وَإِعْلَامًا أَنَّهُ يُرِيدُ لَهُمْ مَا يُرِيدُهُ لِنَفْسِهِ، ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَيْهِمْ لِكَوْنِهِ فِي مَقَامِ تَخْوِيفِهِمْ وَدَعْوَتِهِمْ إِلَى اللَّهِ‏.‏

وَأَيْضًا فَإِنَّ قَوْمَهُ لَمَّا أَنْكَرُوا عَلَيْهِ عِبَادَتَهُ لِلَّهِ، أَخْرَجَ الْكَلَامَ مَعَهُمْ بِحَسْبِ حَالِهِمْ، فَاحْتَجَّ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُ يَقْبُحُ مِنْهُ أَنَّهُ لَا يَعْبُدُ فَاطِرَهُ وَمُبْدِعَهُ؛ ثُمَّ حَذَّرَهُمْ بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ‏}‏ ‏(‏يس‏:‏ 22‏)‏‏.‏

لِذَا جَعَلُوهُ مِنَ الِالْتِفَاتِ، وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا يَكُونُ مِنْهُ إِذَا كَانَ الْقَصْدُ الْإِخْبَارَ عَنْ نَفْسِهِ فِي كِلْتَا الْجُمْلَتَيْنِ، وَهَاهُنَا لَيْسَ كَذَلِكَ؛ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ‏}‏ ‏(‏يس‏:‏ 22‏)‏ الْمُخَاطَبِينَ؛ وَلَمْ يُرِدْ نَفْسَهُ، وَيُؤَيِّدْهُ ضَمِيرُ الْجَمْعِ، وَلَوْ أَرَادَ نَفْسَهُ لَقَالَ‏:‏ ‏"‏ تَرْجِعُ ‏"‏‏.‏

وَأَيْضًا فَشَرْطُ الِالْتِفَاتِ أَنْ يَكُونَ فِي جُمْلَتَيْنِ، وَ ‏"‏ فَطَرَنِي ‏"‏ وَ ‏"‏ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ‏"‏ كَلَامٌ وَاحِدٌ‏.‏

وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ‏:‏ تُرْجَعُونَ ‏(‏يس‏:‏ 22‏)‏ ظَاهِرَهُ لَمَا صَحَّ الِاسْتِفْهَامُ الْإِنْكَارِيُّ؛ لِأَنَّ رُجُوعَ الْعَبْدِ إِلَى مَوْلَاهُ لَيْسَ بِمَعْنَى أَنْ يُعِيدَهُ غَيْرَ ذَلِكَ الرَّاجِعِ، فَالْمَعْنَى‏:‏ كَيْفَ أَعْبُدُ مَنْ إِلَيْهِ رُجُوعِي؛ وَإِنَّمَا تُرِكَ ‏"‏ وَإِلَيْهِ أَرْجِعُ ‏"‏ إِلَى ‏{‏وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ‏}‏ ‏(‏يس‏:‏ 22‏)‏ لِأَنَّهُ دَاخِلٌ فِيهِمْ، وَمَعَ ذَلِكَ أَفَادَ فَائِدَةً حَسَنَةً، وَهِيَ أَنَّهُ نَبَّهَهُمْ أَنَّهُمْ مِثْلُهُ فِي وُجُوبِ عِبَادَةِ مَنْ إِلَيْهِ الرُّجُوعُ؛ فَعَلَى هَذَا، الْوَاوُ لِلْحَالِ وَعَلَى الْأَوَّلِ وَاوُ الْعَطْفِ‏.‏

وَمِنْهُ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ‏}‏ ‏(‏الْكَهْفِ‏:‏ 82‏)‏ عَدَلَ عَنْ قَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏ رَحْمَةً مِنَّا ‏"‏ إِلَى قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ‏}‏ ‏(‏الْكَهْفِ‏:‏ 82‏)‏ لِمَا فِيهِ مِنَ الْإِشْعَارِ بِأَنَّ رُبُوبِيَّتَهُ تَقْتَضِي رَحْمَتَهُ، وَأَنَّهُ رَحِيمٌ بِعَبْدِهِ، كَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ‏}‏ ‏(‏سَبَأٍ‏:‏ 15‏)‏‏.‏

وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏ادْعُوا رَبَّكُمْ‏}‏ ‏(‏الْأَعْرَافِ‏:‏ 55‏)‏ ‏{‏وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ‏}‏ ‏(‏الْحَجِّ‏:‏ 77‏)‏ وَهُوَ كَثِيرٌ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ‏}‏ ‏(‏الْفَتْحِ‏:‏ 1- 2‏)‏ وَلَمْ يَقُلْ‏:‏ ‏"‏ لِنَغْفِرَ لَكَ ‏"‏ تَعْلِيقًا لِهَذِهِ الْمَغْفِرَةِ التَّامَّةِ بِاسْمِهِ الْمُتَضَمِّنِ لِسَائِرِ أَسْمَائِهِ الْحُسْنَى، وَلِهَذَا عَلَّقَ بِهِ النَّصْرَ فَقَالَ‏:‏ ‏{‏وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا‏}‏ ‏(‏الْفَتْحِ‏:‏ 3‏)‏‏.‏

الثَّانِي‏:‏ مِنَ التَّكَلُّمِ إِلَى الْغَيْبَةِ مِنْ أَقْسَامِ الِالْتِفَاتُ فِي الْقُرْآنِ

وَوَجْهُهُ أَنْ يَفْهَمَ السَّامِعُ أَنَّ هَذَا نَمَطُ الْمُتَكَلِّمِ وَقَصْدُهُ مِنَ السَّامِعِ، حَضَرَ أَوْ غَابَ، وَأَنَّهُ فِي كَلَامِهِ لَيْسَ مِمَّنْ يَتَلَوَّنُ وَيَتَوَجَّهُ، فَيَكُونُ فِي الْمُضْمَرِ وَنَحْوِهِ ذَا لَوْنَيْنِ، وَأَرَادَ بِالِانْتِقَالِ إِلَى الْغَيْبَةِ الْإِبْقَاءَ عَلَى الْمُخَاطَبِ، مِنْ قَرْعِهِ فِي الْوَجْهِ بِسِهَامِ الْهَجْرِ، فَالْغِيبَةُ أَرْوَحُ لَهُ، وَأَبْقَى عَلَى مَاءِ وَجْهِهِ أَنْ يَفُوتَ؛ كَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ‏}‏ ‏(‏الْكَوْثَرِ‏:‏ 1- 2‏)‏ حَيْثُ لَمْ يَقُلْ ‏"‏ لَنَا ‏"‏ تَحْرِيضًا عَلَى فِعْلِ الصَّلَاةِ لِحَقِّ الرُّبُوبِيَّةِ‏.‏

وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ‏}‏ ‏(‏الدُّخَانِ‏:‏ 4، 5، 6‏)‏‏.‏

وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا‏}‏ ‏(‏الْأَعْرَافِ‏:‏ 158‏)‏ إِلَى قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ‏}‏ ‏(‏الْأَعْرَافِ‏:‏ 158‏)‏ وَلَمْ يَقُلْ ‏"‏ بِي ‏"‏‏.‏

وَلَهُ فَائِدَتَانِ‏:‏ إِحْدَاهُمَا دَفْعُ التُّهْمَةِ عَنْ نَفْسِهِ بِالْعَصَبِيَّةِ لَهَا، وَالثَّانِي‏:‏ تَنْبِيهُهُمْ عَلَى اسْتِحْقَاقِهِ الِاتِّبَاعَ بِمَا اتَّصَفَ بِهِ مِنَ الصِّفَاتِ الْمَذْكُورَةِ مِنَ النُّبُوَّةِ وَالْأُمِّيَّةِ، الَّتِي هِيَ أَكْبَرُ دَلِيلٍ عَلَى صِدْقِهِ، وَأَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ الِاتِّبَاعَ لِذَاتِهِ، بَلْ لِهَذِهِ الْخَصَائِصِ

الثَّالِثُ‏:‏ مِنَ الْخِطَابِ إِلَى التَّكَلُّمِ مِنْ أَقْسَامِ الِالْتِفَاتِ فِي الْقُرْآنِ

كَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا‏}‏ ‏(‏طه‏:‏ 72- 73‏)‏ وَهَذَا إِنَّمَا يَتَمَشَّى عَلَى قَوْلِ مَنْ لَمْ يَشْتَرِطْ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالِالْتِفَاتِ وَاحِدًا، فَأَمَّا مَنِ اشْتَرَطَهُ فَلَا يَحْسُنُ أَنْ يُمَثِّلَ بِهِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُمَثِّلَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ‏}‏ ‏(‏يُونُسَ‏:‏ 21‏)‏ عَلَى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ نَزَّلَ نَفْسَهُ مَنْزِلَةَ الْمُخَاطَبِ

الرَّابِعُ‏:‏ مِنَ الْخِطَابِ إِلَى الْغَيْبَةِ مِنْ أَقْسَامِ الِالْتِفَاتِ فِي الْقُرْآنِ

كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ‏}‏ ‏(‏يُونُسَ‏:‏ 22‏)‏ فَقَدِ الْتَفَتَ عَنْ ‏(‏كُنْتُمْ‏)‏ ‏(‏يُونُسَ‏:‏ 22‏)‏ إِلَى ‏{‏وَجَرَيْنَ بِهِمْ‏}‏ ‏(‏يُونُسَ‏:‏ 22‏)‏ وَفَائِدَةُ الْعُدُولِ عَنْ خِطَابِهِمْ إِلَى حِكَايَةِ حَالِهِمْ لِغَيْرِهِمْ، لِتَعَجُّبِهِ مِنْ فِعْلِهِمْ وَكُفْرِهِمْ، إِذْ لَوِ اسْتَمَرَّ عَلَى خِطَابِهِمْ لَفَاتَتْ تِلْكَ الْفَائِدَةُ‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ لِأَنَّ الْخِطَابَ أَوَّلًا كَانَ مَعَ النَّاسِ‏:‏ مُؤْمِنِهِمْ وَكَافِرِهِمْ؛ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ‏}‏ ‏(‏يُونُسَ‏:‏ 22‏)‏ فَلَوْ قَالَ‏:‏ ‏"‏ وَجَرَيْنَ بِكُمْ ‏"‏ لَلَزِمَ الذَّمُّ لِلْجَمِيعِ، فَالْتَفَتَ عَنِ الْأَوَّلِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى الِاخْتِصَاصِ بِهَؤُلَاءِ الَّذِينَ شَأْنُهُمْ مَا ذَكَرَهُ عَنْهُمْ فِي آخِرِ الْآيَةِ، فَعَدَلَ عَنِ الْخِطَابِ الْعَامِّ إِلَى الذَّمِّ الْخَاصِّ بِبَعْضِهِمْ، وَهُمُ الْمَوْصُوفُونَ بِمَا أَخْبَرَ بِهِ عَنْهُمْ‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ لِأَنَّهُمْ وَقْتَ الرُّكُوبِ حَضَرُوا؛ لِأَنَّهُمْ خَافُوا الْهَلَاكَ وَتَقَلُّبَ الرِّيَاحِ، فَنَادَاهُمْ نِدَاءَ الْحَاضِرِينَ، ثُمَّ إِنَّ الرِّيَاحَ لَمَّا جَرَتْ بِمَا تَشْتَهِي النُّفُوسُ وَأَمِنَتِ الْهَلَاكَ لَمْ يَبْقَ حُضُورُهُمْ كَمَا كَانَ عَلَى مَا هِيَ عَادَةُ الْإِنْسَانِ أَنَّهُ إِذَا أَمِنَ غَابَ، فَلَمَّا غَابُوا عِنْدَ جَرْيِهِ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ ذَكَرَهُمُ اللَّهُ بِصِيغَةِ الْغَيْبَةِ فَقَالَ‏:‏ ‏{‏وَجَرَيْنَ بِهِمْ‏}‏ ‏(‏يُونُسَ‏:‏ 22‏:‏‏)‏‏.‏

وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ‏}‏ ‏(‏الزُّخْرُفِ‏:‏ 70‏)‏ ثُمَّ قَالَ‏:‏ ‏{‏يُطَافُ عَلَيْهِمْ‏}‏ فَانْتَقَلَ عَنِ الْخِطَابِ إِلَى الْغَيْبَةِ وَلَوْ رُبِطَ بِمَا قَبْلَهُ لَقَالَ‏:‏ ‏"‏ يُطَافُ عَلَيْكُمْ ‏"‏ لِأَنَّهُ مُخَاطَبٌ لَا مُخْبَرٌ، ثُمَّ الْتَفَتَ فَقَالَ‏:‏ ‏{‏وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ‏}‏ ‏(‏الزُّخْرُفِ‏:‏ 71‏)‏ فَكَرَّرَ الِالْتِفَاتَ‏.‏

وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ‏}‏ ‏(‏الرُّومِ‏:‏ 39‏)‏‏.‏

وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ‏}‏ ‏(‏الْحُجُرَاتِ‏:‏ 7‏)‏‏.‏

وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ‏}‏ ‏(‏الْأَنْبِيَاءِ‏:‏ 92، 93‏)‏ وَالْأَصْلُ‏:‏ ‏"‏ فَقَطَّعْتُمْ ‏"‏ عَطْفًا عَلَى مَا قَبْلَهُ، لَكِنْ عَدَلَ مِنَ الْخِطَابِ إِلَى الْغَيْبَةِ، فَقِيلَ‏:‏ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ نَعَى عَلَيْهِمْ مَا أَفْسَدُوهُ مِنْ أَمْرِ دِينِهِمْ إِلَى قَوْمٍ آخَرِينَ، وَوَبَّخَهُمْ عَلَيْهِ قَائِلًا‏:‏ أَلَا تَرَوْنَ إِلَى عَظِيمِ مَا ارْتَكَبَ هَؤُلَاءِ فِي دِينِ اللَّهِ‏.‏

وَجَعَلَ مِنْهُ ابْنُ الشَّجَرِيِّ ‏{‏مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى‏}‏ ‏(‏الضُّحَى‏:‏ 3‏)‏ وَقَدْ سَبَقَ أَنَّهُ عَلَى حَذْفِ الْمَفْعُولِ، فَلَا الْتِفَاتَ‏.‏

الْخَامِسُ‏:‏ مِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى التَّكَلُّمِ

مِنْ أَقْسَامِ الِالْتِفَاتِ فِي الْقُرْآنِ كَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ‏}‏ ‏(‏الْإِسْرَاءِ‏:‏ 1‏)‏‏.‏

‏{‏وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا‏}‏ ‏(‏فُصِّلَتْ‏:‏ 12‏)‏‏.‏

‏{‏وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا‏}‏ ‏(‏مَرْيَمَ‏:‏ 88- 89‏)‏‏.‏

وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ‏}‏ ‏(‏فَاطِرٍ‏:‏ 9‏)‏ وَفَائِدَتُهُ‏:‏ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ سَوْقُ السَّحَابِ إِلَى الْبَلَدِ إِحْيَاءً لِلْأَرْضِ بَعْدَ مَوْتِهَا بِالْمَطَرِ، دَالًّا عَلَى الْقُدْرَةِ الْبَاهِرَةِ وَالْآيَةِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي لَا يَقْدِرُ عَلَيْهَا غَيْرُهُ عَدَلَ عَنْ لَفْظِ الْغَيْبَةِ إِلَى التَّكَلُّمِ؛ لِأَنَّهُ أَدْخَلُ فِي الِاخْتِصَاصِ وَأَدَلُّ عَلَيْهِ وَأَفْخَمُ‏.‏

وَفِيهِ مَعْنًى آخَرُ وَهُوَ أَنَّ الْأَقْوَالَ الْمَذْكُورَةَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنْهَا مَا أَخْبَرَ بِهِ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ بِسَبَبٍ وَهُوَ سَوْقُ السَّحَابِ، فَإِنَّهُ بِسَوْقِ الرِّيَاحِ فَتَسُوقُهُ الْمَلَائِكَةُ بِأَمْرِهِ، وَإِحْيَاءُ الْأَرْضِ بِهِ بِوَاسِطَةِ إِنْزَالِهِ، وَسَائِرُ الْأَسْبَابِ الَّتِي يَقْتَضِيهَا حُكْمُهُ وَعِلْمُهُ، وَعَادَتُهُ سُبْحَانَهُ فِي كُلِّ هَذِهِ الْأَفْعَالِ أَنْ يُخْبِرَ بِهَا بِنُونِ التَّعْظِيمِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ لَهُ جُنْدًا وَخَلْقًا قَدْ سَخَّرَهُمْ فِي ذَلِكَ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ‏}‏ أَيْ‏:‏ إِذَا قَرَأَهُ رَسُولُنَا جِبْرِيلُ، وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا‏}‏ ‏(‏طه‏:‏ 102‏)‏‏.‏

وَأَمَّا إِرْسَالُ السَّحَابِ فَهُوَ سُبْحَانَهُ يَأْذَنُ فِي إِرْسَالِهَا، وَلَمْ يَذْكُرْ لَهُ سَبَبًا بِخِلَافِ سَوْقِ السَّحَابِ وَإِنْزَالِ الْمَطَرِ، فَإِنَّهُ قَدْ ذَكَرَ أَسْبَابَهُ‏:‏ ‏{‏وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ‏}‏ ‏(‏الْأَنْعَامِ‏:‏ 99‏)‏ ‏{‏أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً‏}‏ ‏(‏الْحَجِّ‏:‏ 63‏)‏ ‏{‏أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا‏}‏ ‏(‏فَاطِرٍ‏:‏ 27‏)‏ ‏{‏أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ‏}‏ ‏(‏النَّمْلِ‏:‏ 60‏)‏‏.‏

وَجَعَلَ الزَّمَخْشَرِيُّ مِنْهُ قَوْلَهُ فِي سُورَةِ طه‏:‏ ‏{‏وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى‏}‏ ‏(‏طه‏:‏ 53‏)‏‏:‏ وَزَعَمَ الْجُرْجَانِيُّ أَنَّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْتِفَاتًا، وَجَعَلَ قَوْلَهُ‏:‏ ‏{‏وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً‏}‏ ‏(‏طه‏:‏ 53‏)‏ آخِرَ كَلَامِ مُوسَى، ثُمَّ ابْتَدَأَ اللَّهُ تَعَالَى فَأَخْبَرَ عَنْ نَفْسِهِ بِأَوْصَافِهِ لِمُعَالَجَتِهَا‏.‏

وَأَشَارَ الزَّمَخْشَرِيُّ إِلَى أَنَّ فَائِدَةَ الِالْتِفَاتِ إِلَى التَّكَلُّمِ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ التَّنْبِيهُ عَلَى التَّخْصِيصِ بِالْقُدْرَةِ؛ وَأَنَّهُ لَا يَدْخُلُ تَحْتَ قُدْرَةِ أَحَدٍ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ غَيْرِهِ‏:‏ إِنَّ الْإِشَارَةَ إِلَى حِكَايَةِ الْحَالِ وَاسْتِحْضَارِ تِلْكَ الصُّورَةِ الْبَدِيعَةِ الدَّالَّةِ عَلَى الْقُدْرَةِ‏.‏ وَكَذَا يَفْعَلُونَ لِكُلِّ فِعْلٍ فِيهِ نَوْعُ تَمْيِيزٍ وَخُصُوصِيَّةٍ بِحَالٍ تُسْتَغْرَبُ أَوْ تُهِمُّ الْمُخَاطَبَ، وَإِنَّمَا قَالَ‏:‏ ‏{‏فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً‏}‏ ‏(‏الْحَجِّ‏:‏ 63‏)‏ لِإِفَادَةِ بَقَاءِ الْمَطَرِ زَمَانًا بَعْدَ زَمَانٍ‏.‏

وَمِثْلُهُ‏:‏ ‏{‏فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ‏}‏ ‏(‏فُصِّلَتْ‏:‏ 12‏)‏ عَدَلَ عَنِ الْغَيْبَةِ فِي ‏"‏ قَضَاهُنَّ ‏"‏ وَ ‏"‏ سَوَّاهُنَّ ‏"‏ إِلَى التَّكَلُّمِ فِي قَوْلِهِ‏:‏ وَزَيَّنَّا ‏(‏فُصِّلَتْ‏:‏ 12‏)‏ فَقِيلَ لِلِاهْتِمَامِ بِذَلِكَ وَالْإِخْبَارِ عَنْ نَفْسِهِ بِأَنَّهُ جَعَلَ الْكَوْكَبَ زِينَةَ السَّمَاءِ الدُّنْيَا وَحِفْظًا؛ تَكْذِيبًا لِمَنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ لَمَّا كَانَتِ الْأَفْعَالُ الْمَذْكُورَةُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ نَوْعَيْنِ‏:‏

أَحَدُهُمَا‏:‏ وَجْهُ الْإِخْبَارِ عَنْهُ بِوُقُوعِهِ فِي الْأَيَّامِ الْمَذْكُورَةِ، وَهُوَ خَلْقُ الْأَرْضِ فِي يَوْمَيْنِ، وَجَعْلُ الرَّوَاسِي مِنْ فَوْقِهَا وَإِلْقَاءُ الْبَرَكَةِ فِيهَا، وَتَقْدِيرُ الْأَقْوَاتِ فِي تَمَامِ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ، ثُمَّ الْإِخْبَارُ بِأَنَّهُ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ، وَأَنَّهُ أَتَمَّهَا وَأَكْمَلَهَا سَبْعًا فِي يَوْمَيْنِ، فَأَتَى فِي هَذَا النَّوْعِ بِضَمِيرِ الْغَائِبِ عَطْفًا عَلَى أَوَّلِ الْكَلَامِ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا‏}‏ ‏(‏فُصِّلَتْ‏:‏ 9- 10‏)‏ إِلَى قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ‏}‏ ‏(‏فُصِّلَتْ‏:‏ 12‏)‏ الْآيَةَ‏.‏

وَالثَّانِي‏:‏ قُصِدَ بِهِ الْإِخْبَارُ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ قَصْدِ مُدَّةِ خَلْقِهِ، وَهُوَ تَزْيِينُ سَمَاءِ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ، وَجَعْلُهَا حِفْظًا، فَإِنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ بَيَانَ مُدَّةِ ذَلِكَ، بِخِلَافِ مَا قَبْلَهُ؛ فَإِنَّ نَوْعَ الْأَوَّلِ يَتَضَمَّنُ إِيجَادًا لِهَذِهِ الْمَخْلُوقَاتِ الْعَظِيمَةِ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ الْيَسِيرَةِ، وَذَلِكَ مِنْ أَعْظَمِ آثَارِ قُدْرَتِهِ، وَأَمَّا تَزْيِينُ السَّمَاءِ الدُّنْيَا بِالْمَصَابِيحِ فَلَيْسَ الْمَقْصُودُ بِهِ الْإِخْبَارَ عَنْ مُدَّةِ خَلْقِ النُّجُومِ، فَالْتَفَتَ مِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى التَّكَلُّمِ فَقَالَ‏:‏ زَيَّنَّا‏.‏

فَائِدَةٌ

وَقَدْ تَكَرَّرَ الِالْتِفَاتُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ‏}‏ ‏(‏الْإِسْرَاءِ‏:‏ 1‏)‏ فِي أَرْبَعَةِ مَوَاضِعَ؛ فَانْتَقَلَ عَنِ الْغَيْبَةِ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ‏}‏ ‏(‏الْإِسْرَاءِ‏:‏ 1‏)‏ إِلَى التَّكَلُّمِ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏بَارَكْنَا حَوْلَهُ‏}‏ ‏(‏الْإِسْرَاءِ‏:‏ 1‏)‏ ثُمَّ عَنِ التَّكَلُّمِ إِلَى الْغَيْبَةِ فِي قَوْلِهِ‏:‏ لِيُرِيَهُ ‏(‏الْإِسْرَاءِ‏:‏ 1‏)‏ بِالْيَاءِ عَلَى قِرَاءَةِ الْحَسَنِ، ثُمَّ عَنِ الْغَيْبَةِ إِلَى التَّكَلُّمِ فِي قَوْلِهِ‏:‏ آيَاتِنَا ‏(‏الْإِسْرَاءِ‏:‏ 1‏)‏ ثُمَّ عَنِ التَّكَلُّمِ إِلَى الْغَيْبَةِ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ‏}‏ ‏(‏الْإِسْرَاءِ‏:‏ 1‏)‏‏.‏

وَكَذَلِكَ فِي الْفَاتِحَةِ، فَإِنَّ مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ‏}‏ ‏(‏الْفَاتِحَةِ‏:‏ 4‏)‏ أُسْلُوبُ غَيْبَةٍ، ثُمَّ الْتَفَتَ بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ‏}‏ ‏(‏الْفَاتِحَةِ‏:‏ 5‏)‏ إِلَى أُسْلُوبِ خِطَابٍ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ‏}‏ ‏(‏الْفَاتِحَةِ‏:‏ 7‏)‏ ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَى الْغَيْبَةِ بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ‏}‏ ‏(‏الْفَاتِحَةِ‏:‏ 7‏)‏ وَلَمْ يَقُلِ ‏"‏ الَّذِينَ غَضِبْتَ ‏"‏ كَمَا قَالَ‏:‏ ‏{‏أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ‏}‏ ‏(‏الْفَاتِحَةِ‏:‏ 7‏)‏‏.‏

السَّادِسُ‏:‏ مِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى الْخِطَابِ مِنْ أَقْسَامِ الِالْتِفَاتِ فِي الْقُرْآنِ

كَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا‏}‏ ‏(‏مَرْيَمَ‏:‏ 88- 89‏)‏ وَلَمْ يَقُلْ‏:‏ ‏"‏ لَقَدْ جَاءُوا ‏"‏ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ مَنْ قَالَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مُوَبَّخًا عَلَيْهِ، مُنْكَرًا عَلَيْهِ قَوْلُهُ، كَأَنَّهُ يُخَاطِبُ بِهِ قَوْمًا حَاضِرِينَ‏.‏

وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ‏}‏ ‏(‏مَرْيَمَ‏:‏ 39‏)‏ ثُمَّ قَالَ‏:‏ ‏{‏وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا‏}‏ ‏(‏مَرْيَمَ‏:‏ 71‏)‏‏.‏

وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً‏}‏ ‏(‏الْإِنْسَانِ‏:‏ 21- 22‏)‏‏.‏

وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ‏}‏ ‏(‏آلِ عِمْرَانَ‏:‏ 106‏)‏‏.‏

وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ‏}‏ ‏(‏التَّوْبَةِ‏:‏ 35‏)‏‏.‏

وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ‏}‏ ‏(‏الْفُرْقَانِ‏:‏ 45‏)‏ ثُمَّ قَالَ‏:‏ ‏{‏ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا‏}‏ ‏(‏الْفُرْقَانِ‏:‏ 45‏)‏‏.‏

وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 6‏)‏ الْآيَةَ‏.‏

وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 57‏)‏‏.‏

وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ‏}‏ ‏(‏الْأَحْزَابِ‏:‏ 50‏)‏‏.‏

وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ‏}‏ ‏(‏الْأَنْعَامِ‏:‏ 6‏)‏‏.‏

وَقَوْلِهِ حِكَايَةً عَنِ الْخَلِيلِ‏:‏ ‏{‏اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا‏}‏ ‏(‏الْعَنْكَبُوتِ‏:‏ 16- 17‏)‏ إِلَى قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ‏}‏ ‏(‏الْعَنْكَبُوتِ‏:‏ 24‏)‏‏.‏

وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا‏}‏ ‏(‏إِبْرَاهِيمَ‏:‏ 19- 20- 21‏)‏‏.‏

وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا‏}‏ ‏(‏الْأَعْرَافِ‏:‏ 175‏)‏ إِلَى قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ‏}‏ ‏(‏الْأَعْرَافِ‏:‏ 176‏)‏‏.‏

وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ‏}‏ الْآيَةَ ‏(‏الْمَائِدَةِ‏:‏ 38- 39‏)‏‏.‏

وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ مِنْهُ قَوْلَهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا‏}‏ ‏(‏الْمَائِدَةِ‏:‏ 6‏)‏ وَهُوَ عَجِيبٌ؛ لِأَنَّ ‏"‏ الَّذِينَ ‏"‏ مَوْصُولٌ لَفْظُهُ، وَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ عَائِدٍ؛ وَهُوَ الضَّمِيرُ فِي ‏"‏ آمِنُوا ‏"‏، فَكَيْفَ يَعُودُ ضَمِيرُ مُخَاطَبٍ عَلَى غَائِبٍ‏؟‏‏!‏ فَهَذَا مِمَّا لَا يُعْقَلُ‏.‏

وَقَوْلَهُ‏:‏ ‏{‏مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ إِيَّاكَ نَعْبُدُ‏}‏ ‏(‏الْفَاتِحَةِ‏:‏ 4- 5‏)‏ فَقَدِ الْتَفَتَ عَنِ الْغَيْبَةِ وَهُوَ‏:‏ مَالِكِ ‏(‏الْفَاتِحَةِ‏:‏ 4‏)‏ إِلَى الْخِطَابِ وَهُوَ‏:‏ ‏{‏إِيَّاكَ نَعْبُدُ‏}‏ ‏(‏الْفَاتِحَةِ‏:‏ 5‏)‏‏.‏

وَلَكَ أَنْ تَقُولَ‏:‏ إِنْ كَانَ التَّقْدِيرُ‏:‏ قُولُوا‏:‏ الْحَمْدُ لِلَّهِ، فَفِيهِ الْتِفَاتَانِ‏.‏ أَعْنِي فِي الْكَلَامِ الْمَأْمُورِ بِهِ‏.‏

أَحَدُهُمَا‏:‏ فِي لَفْظِ الْجَلَالَةِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَاضِرٌ، فَأَصْلُهُ‏:‏ ‏"‏ الْحَمْدُ لَكَ ‏"‏‏.‏

وَالثَّانِي‏:‏ إِيَّاكَ ‏(‏الْفَاتِحَةِ‏:‏ 5‏)‏ لِمَجِيئِهِ عَلَى خِلَافِ الْأُسْلُوبِ السَّابِقِ، وَإِنْ لَمْ يُقَدَّرْ ‏"‏ قُولُوا ‏"‏ كَانَ فِي ‏"‏ الْحَمْدُ لِلَّهِ ‏"‏ الْتِفَاتٌ عَنِ التَّكَلُّمِ إِلَى الْغَيْبَةِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ حَمَدَ نَفْسَهُ، وَلَا يَكُونُ فِي ‏(‏إِيَّاكَ نَعْبُدُ‏)‏ ‏(‏الْفَاتِحَةِ‏:‏ 5‏)‏ الْتِفَاتٌ؛ لِأَنَّ ‏"‏ قُولُوا ‏"‏ مُقَدَّرَةٌ مَعَهَا قَطْعًا، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي الْآيَةِ الْتِفَاتَيْنِ أَوْ لَا الْتِفَاتَ بِالْكُلِّيَّةِ‏.‏

السَّابِعُ‏:‏ بِنَاءُ الْفِعْلِ لِلْمَفْعُولِ بَعْدَ خِطَابِ فَاعِلِهِ أَوْ تَكَلُّمِهِ مِنْ أَقْسَامِ الِالْتِفَاتِ فِي الْقُرْآنِ

فَيَكُونُ الْتِفَاتًا عَنْهُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ‏}‏ ‏(‏الْفَاتِحَةِ‏:‏ 7‏)‏ بَعْدَ ‏(‏أَنْعَمْتَ‏)‏ ‏(‏الْفَاتِحَةِ‏:‏ 7‏)‏ فَإِنَّ الْمَعْنَى ‏"‏ غَيْرِ الَّذِينَ غَضِبْتَ عَلَيْهِمْ ‏"‏، ذَكَرَهُ التَّنُوخِيُّ فِي ‏"‏ الْأَقْصَى الْقَرِيبِ ‏"‏، وَالْخَفَاجِيُّ وَابْنُ الْأَثِيرِ وَغَيْرُهُمْ‏.‏

وَاعْلَمْ أَنَّهُ عَلَى رَأْيِ السَّكَّاكِيِّ تَجِيءُ الْأَقْسَامُ السِّتَّةُ فِي الْقِسْمِ الْأَخِيرِ، وَهُوَ الِانْتِقَالُ التَّقْدِيرِيُّ‏.‏

وَزَعَمَ صَاحِبُ ‏"‏ ضَوْءِ الْمِصْبَاحِ ‏"‏ أَنَّهُ لَمْ يُسْتَعْمَلْ مِنْهَا إِلَّا وَضْعُ الْخِطَابِ وَالْغَيْبَةِ مَوْضِعَ التَّكَلُّمِ، وَوَضْعُ التَّكَلُّمِ مَوْضِعَ الْخِطَابِ، وَمَثَّلَ الثَّالِثَ بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي‏}‏ ‏(‏يس‏:‏ 22‏)‏ مَكَانَ‏:‏ ‏"‏ وَمَا لَكُمْ لَا تَعْبُدُونَ الَّذِي فَطَرَكُمْ ‏"‏‏.‏

وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ مِنَ الِالْتِفَاتِ قَوْلَهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 177‏)‏ ثُمَّ قَالَ‏:‏ ‏{‏وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 177‏)‏ وَقَوْلَهُ‏:‏ ‏{‏وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ‏}‏ ‏(‏النِّسَاءِ‏:‏ 162‏)‏‏.‏

الْبَحْثُ الثَّالِثُ‏:‏ فِي أَسْبَابِهِ

أَسْبَابُ الِالْتِفَاتِ‏:‏

اعْلَمْ أَنَّ لِلِالْتِفَاتِ فَوَائِدُ عَامَّةٌ وَخَاصَّةٌ، فَمِنَ الْعَامَّةِ التَّفَنُّنُ وَالِانْتِقَالُ مِنْ أُسْلُوبٍ إِلَى آخَرَ مِنْ فَوَائِدِ الِالْتِفَاتِ فِي الْقُرْآنِ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ تَنْشِيطِ السَّامِعِ، وَاسْتِجْلَابِ صَفَائِهِ، وَاتِّسَاعِ مَجَارِي الْكَلَامِ، وَتَسْهِيلِ الْوَزْنِ وَالْقَافِيَةِ‏.‏

وَقَالَ الْبَيَانِيُّونَ‏:‏ إِنَّ الْكَلَامَ إِذَا جَاءَ عَلَى أُسْلُوبٍ وَاحِدٍ وَطَالَ حَسُنَ تَغْيِيرُ الطَّرِيقَةِ‏.‏

وَنَازَعَهُمُ الْقَاضِي شَمْسُ الدِّينِ الْخُوَيِّيُّ، وَقَالَ‏:‏ الظَّاهِرُ أَنَّ مُجَرَّدَ هَذَا لَا يَكْفِي فِي الْمُنَاسَبَةِ، فَإِنَّا رَأَيْنَا كَلَامًا أَطْوَلَ فِي هَذَا، وَالْأُسْلُوبُ مَحْفُوظٌ، قَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ‏}‏ ‏(‏الْأَحْزَابِ‏:‏ 35‏)‏ إِلَى أَنْ ذَكَرَ عَشَرَةَ أَصْنَافٍ وَخَتَمَ بِـ‏{‏وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ‏}‏ ‏(‏الْأَحْزَابِ‏:‏ 35‏)‏ وَلَمْ يُغَيِّرِ الْأُسْلُوبَ، وَإِنَّمَا الْمُنَاسَبَةُ أَنَّ الْإِنْسَانَ كَثِيرُ التَّقَلُّبِ، وَقَلْبُهُ بَيْنَ إِصْبَعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ يُقَلِّبُهُ كَيْفَ يَشَاءُ، فَإِنَّهُ يَكُونُ غَائِبًا فَيَحْضُرُ بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ، وَآخَرُ يَكُونُ حَاضِرًا فَيَغِيبُ، فَاللَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَالَ‏:‏ ‏{‏الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ‏}‏ ‏(‏الْفَاتِحَةِ‏:‏ 2‏)‏ تَنَبَّهَ السَّامِعُ وَحَضَرَ قَلْبُهُ، فَقَالَ‏:‏ ‏{‏إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ‏}‏ ‏(‏الْفَاتِحَةِ‏:‏ 5‏)‏ وَأَمَّا الْخَاصَّةُ فَتَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ مَحَالِّهِ وَمَوَاقِعِ الْكَلَامِ فِيهِ عَلَى مَا يَقْصِدُهُ الْمُتَكَلِّمُ‏.‏

فَمِنْهَا قَصْدُ تَعْظِيمِ شَأْنِ الْمُخَاطَبِ، مِنْ فَوَائِدَ الِالْتِفَاتِ فِي الْقُرْآنِ كَمَا فِي ‏{‏الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ‏}‏ ‏(‏الْفَاتِحَةِ‏:‏ 2‏)‏ فَإِنَّ الْعَبْدَ إِذَا افْتَتَحَ حَمْدَ مَوْلَاهُ بِقَوْلِهِ ‏"‏ الْحَمْدُ لِلَّهِ ‏"‏ الدَّالِّ عَلَى اخْتِصَاصِهِ بِالْحَمْدِ وَجَدَ مِنْ نَفْسِهِ التَّحَرُّكَ لِلْإِقْبَالِ عَلَيْهِ سُبْحَانَهُ، فَإِذَا انْتَقَلَ إِلَى قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏رَبِّ الْعَالَمِينَ‏}‏ ‏(‏الْفَاتِحَةِ‏:‏ 2‏)‏ الدَّالِّ عَلَى رُبُوبِيَّتِهِ لِجَمِيعِهِمْ قَوِيَ تَحَرُّكُهُ، فَإِذَا قَالَ‏:‏ ‏{‏الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ‏}‏ ‏(‏الْفَاتِحَةِ‏:‏ 3‏)‏ الدَّالُّ عَلَى أَنَّهُ مُنْعِمٌ بِأَنْوَاعِ النِّعَمِ جَلِيلِهَا وَحَقِيرِهَا تَزَايَدَ التَّحَرُّكُ عِنْدَهُ، فَإِذَا وَصَلَ لِـ‏{‏مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ‏}‏ ‏(‏الْفَاتِحَةِ‏:‏ 4‏)‏ وَهُوَ خَاتِمَةُ الصِّفَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّهُ مَالِكُ الْأَمْرِ يَوْمَ الْجَزَاءِ، فَيَتَأَهَّبُ قُرْبَهُ وَتَيَقَّنَ الْإِقْبَالُ عَلَيْهِ بِتَخْصِيصِهِ بِغَايَةِ الْخُضُوعِ وَالِاسْتِعَانَةِ فِي الْمُهِمَّاتِ‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ إِنَّمَا اخْتِيرَ لِلْحَمْدِ لَفْظُ الْغَيْبَةِ وَلِلْعِبَادَةِ الْخِطَابُ، لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ الْحَمْدَ دُونَ الْعِبَادَةِ فِي الرُّتْبَةِ؛ فَإِنَّكَ تَحْمَدُ نَظِيرَكَ وَلَا تَعْبُدُهُ، إِذِ الْإِنْسَانُ يَحْمَدُ مَنْ لَا يَعْبُدُهُ، وَلَا يَعْبُدُ مَنْ لَا يَحْمَدُهُ، فَلَمَّا كَانَ كَذَلِكَ اسْتُعْمِلْ لَفْظُ الْحَمْدِ لِتَوَسُّطِهِ مَعَ الْغَيْبَةِ فِي الْخَبَرِ، فَقَالَ‏:‏ ‏{‏الْحَمْدُ لِلَّهِ‏}‏ وَلَمْ يَقُلْ‏:‏ ‏"‏ الْحَمْدُ لَكَ ‏"‏، وَلَفْظُ الْعِبَادَةِ مَعَ الْخِطَابِ فَقَالَ‏:‏ ‏{‏إِيَّاكَ نَعْبُدُ‏}‏ ‏(‏الْفَاتِحَةِ‏:‏ 5‏)‏ لِيُنْسَبَ إِلَى الْعَظِيمِ حَالَ الْمُخَاطَبَةِ وَالْمُوَاجِهَةِ مَا هُوَ أَعْلَى رُتْبَةً، وَذَلِكَ عَلَى طَرِيقِ التَّأَدُّبِ، وَعَلَى نَحْوٍ مِنْ ذَلِكَ جَاءَ آخِرُ السُّورَةِ فَقَالَ‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ‏}‏ ‏(‏الْفَاتِحَةِ‏:‏ 7‏)‏ مُصَرِّحًا بِذِكْرِ الْمُنْعِمِ، وَإِسْنَادِ الْإِنْعَامِ إِلَيْهِ لَفْظًا، وَلَمْ يَقُلْ‏:‏ صِرَاطَ الْمُنْعَمِ عَلَيْهِمْ‏.‏ فَلَمَّا صَارَ إِلَى ذِكْرِ الْغَضَبِ رَوَى عَنْهُ لَفْظَ الْغَضَبِ فِي النِّسْبَةِ إِلَيْهِ لَفْظًا، وَجَاءَ بِاللَّفْظِ مُتَحَرِّفًا عَنْ ذِكْرِ الْغَاضِبِ، فَلَمْ يَقُلْ‏:‏ ‏"‏ غَيْرِ الَّذِينَ غَضِبْتَ عَلَيْهِمْ ‏"‏ تَفَادِيًا عَنْ نِسْبَةِ الْغَضَبِ فِي اللَّفْظِ حَالَ الْمُوَاجَهَةِ‏.‏

وَمِنْ هَذَا قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا‏}‏ ‏(‏الْإِسْرَاءِ‏:‏ 111‏)‏ فَإِنَّ التَّأَدُّبَ فِي الْغَيْبَةِ دُونَ الْخِطَابِ‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ لِأَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ الْحَقِيقَ بِالْحَمْدِ، وَأَجْرَى عَلَيْهِ الصِّفَاتِ الْعَظِيمَةِ مِنْ كَوْنِهِ رَبًّا لِلْعَالَمِينَ وَرَحْمَانًا وَرَحِيمًا وَمَالِكًا لِيَوْمِ الدِّينِ تَعَلَّقَ الْعِلْمُ بِمَعْلُومٍ عَظِيمِ الشَّأْنِ حَقِيقٍ بِأَنْ يَكُونَ مَعْبُودًا دُونَ غَيْرِهِ، مُسْتَعَانًا بِهِ، فَخُوطِبَ بِذَلِكَ لِتَمَيُّزِهِ بِالصِّفَاتِ الْمَذْكُورَةِ، تَعْظِيمًا لِشَأْنِهِ كُلِّهِ حَتَّى كَأَنَّهُ قِيلَ‏:‏ إِيَّاكَ يَا مَنْ هَذِهِ صِفَاتُهُ نَخُصُّ بِالْعِبَادَةِ وَالِاسْتِعَانَةِ لَا غَيْرَكَ‏.‏

قِيلَ‏:‏ وَمِنْ لَطَائِفِهِ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ مُبْتَدَأَ الْخَلْقِ الْغَيْبَةُ مِنْهُمْ عَنْهُ سُبْحَانَهُ، وَقُصُورُهُمْ عَنْ مُحَاضَرَتِهِ وَمُخَاطَبَتِهِ، وَقِيَامُ حِجَابِ الْعَظَمَةِ عَلَيْهِمْ، فَإِذَا عَرَفُوهُ بِمَا هُوَ لَهُ، وَتَوَسَّلُوا لِلْقُرْبِ بِالثَّنَاءِ عَلَيْهِ، وَأَقَرُّوا بِالْمَحَامِدِ لَهُ وَتَعَبَّدُوا لَهُ بِمَا يَلِيقُ بِهِمْ، تَأَهَّلُوا لِمُخَاطَبَاتِهِ وَمُنَاجَاتِهِ، فَقَالُوا‏:‏ ‏{‏إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ‏}‏ ‏(‏الْفَاتِحَةِ‏:‏ 5‏)‏‏.‏

وَفِيهِ أَنَّهُمْ يُبْدُونَ بَيْنَ يَدَيْ كُلِّ دُعَاءٍ لَهُ سُبْحَانَهُ وَمُنَاجَاةٍ لَهُ صِفَاتِ عَظَمَتِهِ لِمُخَاطَبَتِهِ عَلَى الْأَدَبِ وَالتَّعْظِيمِ، لَا عَنِ الْغَفْلَةِ وَالْإِغْفَالِ، وَلَا عَنِ اللَّعِبِ وَالِاسْتِخْفَافِ، كَمَنْ يَدْعُو بِلَا نِيَّةٍ أَوْ عَلَى تَلَعُّبٍ وَغَفْلَةٍ، وَهُمْ كَثِيرٌ‏.‏

وَمِنْهُ أَنَّ مُنَاجَاتَهُ لَا تَصْعَدُ إِلَّا إِذَا تَطَهَّرَ لَهُ مِنْ أَدْنَاسِ الْجَهَالَةِ بِهِ، كَمَا لَا تَسْجُدُ الْأَعْضَاءُ إِلَّا بَعْدَ التَّطْهِيرِ مِنْ حَدَثِ الْأَجْسَامِ، وَلِذَلِكَ قُدِّمَتِ الِاسْتِعَاذَةُ عَلَى الْقُرْآنِ‏.‏

قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ‏:‏ وَكَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ‏}‏ ‏(‏النِّسَاءِ‏:‏ 64‏)‏ وَلَمْ يَقُلْ‏:‏ ‏"‏ وَاسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ ‏"‏ لِأَنَّ فِي هَذَا الِالْتِفَاتِ بَيَانَ تَعْظِيمِ اسْتِغْفَارِهِ، وَأَنَّ شَفَاعَةَ مَنِ اسْمُهُ الرَّسُولُ بِمَكَانٍ‏.‏

وَمِنْهَا التَّنْبِيهُ عَلَى مَا حَقُّ الْكَلَامِ أَنْ يَكُونَ وَارِدًا عَلَيْهِ‏:‏ كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ‏}‏ ‏(‏يس‏:‏ 22‏)‏ أَصْلُ الْكَلَامِ‏:‏ ‏"‏ وَمَا لَكَمَ لَا تَعْبُدُونَ الَّذِي فَطَرَكُمْ ‏"‏ وَلَكِنَّهُ أَبْرَزَ الْكَلَامَ فِي مَعْرِضِ الْمُنَاصَحَةِ لِنَفْسِهِ، وَهُوَ يُرِيدُ مُنَاصَحَتَهُمْ، لِيَتَلَطَّفَ بِهِمْ، وَيُرِيَهُمْ أَنَّهُ لَا يُرِيدُ لَهُمْ إِلَّا مَا يُرِيدُ لِنَفْسِهِ، ثُمَّ لَمَّا انْقَضَى غَرَضُهُ مِنْ ذَلِكَ قَالَ‏:‏ ‏{‏وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ‏}‏ ‏(‏يس‏:‏ 22‏)‏ لِيَدُلَّ عَلَى مَا كَانَ مِنْ أَصْلِ الْكَلَامِ، وَمُقْتَضِيًا لَهُ، ثُمَّ سَاقَهُ هَذَا الْمَسَاقَ إِلَى أَنْ قَالَ‏:‏ ‏{‏آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ‏}‏ ‏(‏يس‏:‏ 25‏)‏‏.‏

وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ الْغَرَضُ مِنْهُ التَّتْمِيمَ لِمَعْنًى مَقْصُودٍ لِلْمُتَكَلِّمِ؛ مِنْ فَوَائِدِ الِالْتِفَاتِ فِي الْقُرْآنِ فَيَأْتِي بِهِ مُحَافَظَةً عَلَى تَتْمِيمِ مَا قَصَدَ إِلَيْهِ مِنَ الْمَعْنَى الْمَطْلُوبِ لَهُ؛ كَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرِ حَكِيمٍ أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ‏}‏ ‏(‏الدُّخَانِ‏:‏ 4، 5، 6‏)‏ أَصْلُ الْكَلَامِ‏:‏ إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ رَحْمَةً مِنَّا، وَلَكِنَّهُ وَضَعَ الظَّاهِرَ مَوْضِعَ الْمُضْمَرِ، لِلْإِنْذَارِ بِأَنَّ الرُّبُوبِيَّةَ تَقْتَضِي الرَّحْمَةَ لِلْمَرْبُوبِينَ، لِلْقُدْرَةِ عَلَيْهِمْ، أَوْ لِتَخْصِيصِ النَّبِيِّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِالذِّكْرِ، أَوِ الْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ الْكِتَابَ إِنَّمَا هُوَ إِلَيْهِ دُونَ غَيْرِهِ، ثُمَّ الْتَفَتَ بِإِعَادَةِ الضَّمِيرِ إِلَى الرَّبِّ الْمَوْضُوعِ مَوْضِعَ الْمُضْمَرِ، لِلْمَعْنَى الْمَقْصُودِ مِنْ تَتْمِيمِ الْمَعْنَى‏.‏

وَمِنْهَا قَصْدُ الْمُبَالَغَةِ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ‏}‏ ‏(‏يُونُسَ‏:‏ 22‏)‏ كَأَنَّهُ يَذْكُرُ لِغَيْرِهِمْ حَالَهُمْ؛ لِيَتَعَجَّبَ مِنْهَا وَيَسْتَدْعِيَ مِنْهُ الْإِنْكَارَ وَالتَّقْبِيحَ لَهَا، إِشَارَةً مِنْهُ عَلَى سَبِيلِ الْمُبَالَغَةِ إِلَى أَنَّ مَا يَعْتَمِدُونَهُ بَعْدَ الْإِنْجَاءِ مِنَ الْبَغْيِ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ مِمَّا يُنْكَرُ وَيُقَبِّحُ‏.‏

وَمِنْهَا قَصْدُ الدَّلَالَةِ عَلَى الِاخْتِصَاصِ؛ كَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ‏}‏ ‏(‏فَاطِرٍ‏:‏ 9‏)‏ فَإِنَّهُ لَمَّا كَانَ سَوْقُ السَّحَابِ إِلَى الْبَلَدِ الْمَيِّتِ وَإِحْيَاءِ الْأَرْضِ بَعْدَ مَوْتِهَا بِالْمَطَرِ دَالًّا عَلَى الْقُدْرَةِ الْبَاهِرَةِ الَّتِي لَا يَقْدِرُ عَلَيْهَا غَيْرُهُ، عَدَلَ عَنْ لَفْظِ الْغَيْبَةِ إِلَى التَّكَلُّمِ؛ لِأَنَّهُ أَدْخَلُ فِي الِاخْتِصَاصِ وَأَدَلُّ عَلَيْهِ، قَالَ‏:‏ ‏"‏ سُقْنَا ‏"‏ وَ ‏"‏ أَحْيَيْنَا ‏"‏‏.‏

وَمِنْهَا قَصْدُ الِاهْتِمَامِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ‏}‏ ‏(‏فُصِّلَتْ‏:‏ 11- 12‏)‏ فَعَدَلَ عَنِ الْغَيْبَةِ فِي ‏"‏ قَضَاهُنَّ ‏"‏ وَ ‏"‏ أَوْحَى ‏"‏ إِلَى التَّكَلُّمِ فِي ‏"‏ وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا ‏"‏ لِلِاهْتِمَامِ بِالْإِخْبَارِ عَنْ نَفْسِهِ؛ فَإِنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ الْكَوَاكِبَ فِي سَمَاءِ الدُّنْيَا لِلزِّينَةِ وَالْحِفْظِ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ طَائِفَةً اعْتَقَدَتْ فِي النُّجُومِ أَنَّهَا لَيْسَتْ فِي سَمَاءِ الدُّنْيَا، وَأَنَّهَا لَيْسَتْ حِفْظًا وَلَا رُجُومًا فَعَدَلَ إِلَى التَّكَلُّمِ وَالْإِخْبَارِ عَنْ ذَلِكَ لِكَوْنِهِ مُهِمًّا مِنْ مُهِمَّاتِ الِاعْتِقَادِ وَلِتَكْذِيبِ الْفِرْقَةِ الْمُعْتَقِدَةِ بُطْلَانَهُ‏.‏

وَمِنْهَا قَصْدُ التَّوْبِيخِ؛ مِنْ فَوَائِدِ الِالْتِفَاتِ فِي الْقُرْآنِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا‏}‏ ‏(‏مَرْيَمَ‏:‏ 88- 89‏)‏ عَدَلَ عَنِ الْغَيْبَةِ إِلَى الْخِطَابِ؛ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ قَائِلَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مُوَبَّخًا وَمُنْكَرًا عَلَيْهِ؛ وَلَمَّا أَرَادَ تَوْبِيخَهُمْ عَلَى هَذَا أَخْبَرَ عَنْهُ بِالْحُضُورِ فَقَالَ‏:‏ ‏{‏لَقَدْ جِئْتُمْ‏}‏ ‏(‏مَرْيَمَ‏:‏ 89‏)‏ لِأَنَّ تَوْبِيخَ الْحَاضِرِ أَبْلَغُ فِي الْإِهَانَةِ لَهُ‏.‏

وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ‏}‏ ‏(‏الْأَنْبِيَاءِ‏:‏ 92- 93‏)‏ قَالَ‏:‏ ‏{‏وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ‏}‏ ‏(‏الْأَنْبِيَاءِ‏:‏ 93‏)‏ دُونَ ‏"‏ تَقَطَّعْتُمْ أَمْرَكُمْ بَيْنَكُمْ ‏"‏ كَأَنَّهُ يَنْعِي عَلَيْهِمْ مَا أَفْسَدُوهُ مِنْ أَمْرِ دِينِهِمْ إِلَى قَوْمٍ آخَرِينَ، وَيُقَبِّحُ عِنْدَهُمْ مَا فَعَلُوهُ، وَيُوَبِّخُهُمْ عَلَيْهِ قَائِلًا‏:‏ أَلَا تَرَوْنَ إِلَى عَظِيمِ مَا ارْتَكَبَ هَؤُلَاءِ فِي دِينِ اللَّهِ، فَجَعَلُوا أَمْرَ دِينِهِمْ بِهِ قِطَعًا؛ تَمْثِيلًا لِاخْتِلَافِهِمْ فِي الدِّينِ‏.‏

فَائِدَةٌ

اخْتُلِفَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ‏}‏ ‏(‏آلِ عِمْرَانَ‏:‏ 9‏)‏ بَعْدَ ‏{‏رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ‏}‏ ‏(‏آلِ عِمْرَانَ‏:‏ 9‏)‏‏.‏

فَقِيلَ‏:‏ إِنَّ الْكَلَامَ تَمَّ عِنْدَ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏لَا رَيْبَ فِيهِ‏}‏ ‏(‏آلِ عِمْرَانَ‏:‏ 9‏)‏ وَهَذَا الَّذِي بَعْدَهُ مِنْ مَقُولِ اللَّهِ تَصْدِيقًا لَهُمْ‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ بَلْ هُوَ مِنْ بَقِيَّةِ كَلَامِهِمُ الْأَوَّلِ عَلَى طَرِيقَةِ الِالْتِفَاتِ مِنَ الْخِطَابِ إِلَى الْغَيْبَةِ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ‏}‏ ‏(‏يُونُسَ‏:‏ 22‏)‏‏.‏

فَإِنْ قُلْتَ‏:‏ قَدْ قَالَ تَعَالَى فِي آخِرِ السُّورَةِ‏:‏ ‏{‏وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ‏}‏ ‏(‏آلِ عِمْرَانَ‏:‏ 194‏)‏ فَلِمَ عَدَلَ عَنِ الْخِطَابِ هُنَا‏؟‏ قُلْتُ‏:‏ إِنَّمَا جَاءَ الِالْتِفَاتُ فِي صَدْرِ السُّورَةِ لِأَنَّ الْمَقَامَ يَقْتَضِيهِ، فَإِنَّ الْإِلَهِيَّةَ تَقْتَضِي الْخَيْرَ وَالشَّرَّ؛ لِتُنْصِفَ الْمَظْلُومِينَ مِنَ الظَّالِمِينَ، فَكَانَ الْعُدُولُ إِلَى ذِكْرِ الِاسْمِ الْأَعْظَمِ أَوْلَى، وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى فِي آخِرِ السُّورَةِ‏:‏ ‏{‏إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ‏}‏ ‏(‏آلِ عِمْرَانَ‏:‏ 194‏)‏ فَذَلِكَ الْمَقَامُ مَقَامُ الطَّلَبِ لِلْعَبْدِ مِنْ رَبِّهِ أَنْ يُنْعِمَ عَلَيْهِ بِفَضْلِهِ، وَأَنْ يَتَجَاوَزَ عَنْ سَيِّئَاتِهِ، فَلَمْ يَكُنْ فِيهِ مَا يَقْتَضِي الْعُدُولَ عَنِ الْأَصْلِ الْمُسْتَمِرِّ‏.‏

الْبَحْثُ الرَّابِعُ‏:‏ فِي شَرْطِهِ

تَقَدَّمَ أَنَّ شَرْطَ الِالْتِفَاتِ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ فِي الْمُنْتَقَلِ إِلَيْهِ عَائِدًا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ إِلَى الْمُنْتَقَلِ عَنْهُ؛ وَشَرْطُهُ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ فِي جُمْلَتَيْنِ، أَيْ‏:‏ كَلَامَيْنِ مُسْتَقِلَّيْنِ؛ حَتَّى يَمْتَنِعَ بَيْنَ الشَّرْطِ وَجَوَابِهِ‏.‏

وَفِي هَذَا الشَّرْطِ نَظَرٌ، فَقَدْ وَقَعَ فِي الْقُرْآنِ مَوَاضِعُ، الِالْتِفَاتُ فِيهَا وَقَعَ فِي كَلَامٍ وَاحِدٍ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَ جُزْأَيِ الْجُمْلَةِ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ أُولَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي‏}‏ ‏(‏الْعَنْكَبُوتِ‏:‏ 23‏)‏‏.‏

وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا‏}‏ ‏(‏الْقَصَصِ‏:‏ 59‏)‏‏.‏

وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ‏}‏ ‏(‏الْأَحْزَابِ‏:‏ 50‏)‏ بَعْدَ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ‏}‏ ‏(‏الْأَحْزَابِ‏:‏ 50‏)‏ التَّقْدِيرُ‏:‏ إِنْ وَهَبَتِ امْرَأَةٌ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ، ‏{‏إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ‏}‏ ‏(‏الْأَحْزَابِ‏:‏ 50‏)‏ وَجُمْلَتَا الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ كَلَامٌ وَاحِدٌ‏.‏

وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ‏}‏ ‏(‏الْفُرْقَانِ‏:‏ 17‏)‏‏.‏

وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ‏}‏ ‏(‏الْفَتْحِ‏:‏ 8- 9‏)‏ وَفِيهِ الْتِفَاتَانِ‏:‏ أَحَدُهُمَا بَيْنَ ‏"‏ أَرْسَلْنَا ‏"‏ وَالْجَلَالَةِ، وَالثَّانِي بَيْنَ الْكَافِ فِي ‏"‏ أَرْسَلْنَاكَ ‏"‏ وَ ‏"‏ رَسُولِهِ ‏"‏ وَكُلٌّ مِنْهُمَا فِي كَلَامٍ وَاحِدٍ‏.‏

وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ‏}‏ ‏(‏آلِ عِمْرَانَ‏:‏ 151‏)‏‏.‏

وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا‏}‏ ‏(‏الْإِسْرَاءِ‏:‏ 63‏)‏ وَجَوَّزَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِيهِ أَنْ يَكُونَ ضَمِيرُ ‏"‏ جَزَاؤُكُمْ ‏"‏ يَعُودُ عَلَى التَّابِعِينَ عَلَى طَرِيقِ الِالْتِفَاتِ‏.‏

وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏ وَاتَّقُوا يَوْمًا يُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ‏"‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 281‏)‏ عَلَى قِرَاءَةِ الْيَاءِ‏.‏

وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا‏}‏ ‏(‏الْمَائِدَةِ‏:‏ 12‏)‏ قَالَ التَّنُوخِيُّ فِي ‏"‏ الْأَقْصَى الْقَرِيبِ ‏"‏‏:‏ الْوَاوُ لِلْحَالِ‏.‏

وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ‏}‏ ‏(‏يس‏:‏ 22‏)‏‏.‏

الْبَحْثُ الْخَامِسُ‏:‏ أَنَّهُ يَقْرُبُ مِنَ الِالْتِفَاتِ نَقْلُ الْكَلَامِ إِلَى غَيْرِهِ

وَإِنَّمَا يُفْعَلُ ذَلِكَ إِذَا ابْتُلِيَ الْعَاقِلُ بِخَصْمٍ جَاهِلٍ مُتَعَصِّبٍ، فَيَجِبُ أَنْ يَقْطَعَ الْكَلَامَ مَعَهُ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ؛ لِأَنَّهُ كُلَّمَا كَانَ خَوْضُهُ مَعَهُ أَكْثَرَ، كَانَ بُعْدُهُ عَنِ الْقَبُولِ أَشَدَّ، فَالْوَجْهُ حِينَئِذٍ أَنْ يُقْطَعَ الْكَلَامُ مَعَهُ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ، وَأَنْ يُؤْخَذَ فِي كَلَامٍ آخَرَ أَجْنَبِيٍّ وَيُطْنَبَ فِيهِ، بِحَيْثُ يَنْسَى الْأَوَّلُ، فَإِذَا اشْتَغَلَ خَاطِرُهُ بِهِ أَدْرَجَ لَهُ أَثْنَاءَ الْكَلَامِ الْأَجْنَبِيِّ مُقَدَّمَةً تُنَاسِبُ ذَلِكَ الْمَطْلَبَ الْأَوَّلَ؛ لِيَتَمَكَّنَ مِنِ انْقِيَادِهِ‏.‏

وَهَذَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ أَبُو الْفَضْلِ فِي كِتَابِ ‏"‏ دُرَّةِ التَّنْزِيلِ ‏"‏، وَجَعَلَ مِنْهُ قَوْلَهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ‏}‏ ‏(‏ص‏:‏ 17‏)‏ قَالَ‏:‏ إِنَّ قَوْلَهُ‏:‏ ‏"‏ وَاذْكُرْ ‏"‏ لَيْسَ مُتَّصِلًا بِمَا قَبْلَهُ، بَلْ نَقْلًا لَهُمْ عَمَّا هُمْ عَلَيْهِ، وَالْمُقَدَّمَةُ الْمُدْرَجَةُ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا‏}‏ ‏(‏ص‏:‏ 27‏)‏ إِلَى قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ‏}‏ ‏(‏ص‏:‏ 29‏)‏‏.‏

وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ يُخْرِجُ الْآيَةَ عَنِ الِاتِّصَالِ، مَعَ أَنَّ فِي الِاتِّصَالِ وُجُوهًا مَذْكُورَةً فِي مَوْضِعِهَا‏.‏

وَأَلْحَقَ بِهِ الْأُسْتَاذُ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ الزُّبَيْرِ قَوْلَهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ بَلْ عَجِبُوا‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ ‏(‏ق‏:‏ 1- 2‏)‏ الْآيَةَ، فَهَذَا إِنْكَارٌ مِنْهُمْ لِلْبَعْثِ وَاسْتِبْعَادٌ، نَحْوُ الْوَارِدِ فِي سُورَةِ ‏"‏ ص ‏"‏ فَأَعْقَبَ ذَلِكَ بِمَا يُشْبِهُ الِالْتِفَاتَ بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا‏}‏ ‏(‏ق‏:‏ 6‏)‏ إِلَى قَوْلِهِ فِي مَاءِ السَّمَاءِ‏:‏ ‏{‏وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ‏}‏ ‏(‏ق‏:‏ 11‏)‏ فَبَعْدَ الْعُدُولِ عَنْ مُجَاوَبَتِهِمْ فِي قَوْلِهِمْ‏:‏ ‏{‏ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ‏}‏ ‏(‏ق‏:‏ 3‏)‏ وَذِكْرِ اخْتِلَافِهِمُ الْمُسَبَّبِ عَنْ تَكْذِيبِهِمْ، فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ‏}‏ ‏(‏ق‏:‏ 5‏)‏ صَرَفَ تَعَالَى الْكَلَامَ إِلَى نَبِيِّهِ وَالْمُؤْمِنِينَ فَقَالَ‏:‏ ‏{‏أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا‏}‏ ‏(‏ق‏:‏ 6‏)‏ إِلَى قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا‏}‏ ‏(‏ق‏:‏ 11‏)‏ وَذَلِكَ حِكْمَةٌ تُدْرَكُ مُشَاهَدَةً لَا يُمْكِنُهُمُ التَّوَقُّفُ فِي شَيْءٍ مِنْهُ وَلَا حُفِظَ عَنْهُمْ إِنْكَارُهُ، فَعِنْدَ تَكَرُّرِ هَذَا قَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏كَذَلِكَ الْخُرُوجُ‏}‏ ‏(‏ق‏:‏ 11‏)‏‏.‏

وَمِمَّا يَقْرُبُ مِنَ الِالْتِفَاتِ أَيْضًا الِانْتِقَالُ مِنْ خِطَابِ الْوَاحِدِ وَالِاثْنَيْنِ وَالْجَمْعِ إِلَى خِطَابٍ آخَرَ، أَقْسَامُهُ وَهُوَ سِتَّةُ أَقْسَامٍ كَمَا سَبَقَ تَقْسِيمُ الِالْتِفَاتِ‏:‏

الْمَشْهُورُ أَحَدُهَا‏:‏ الِانْتِقَالُ مِنْ خِطَابِ الْوَاحِدِ لِخِطَابِ الِاثْنَيْنِ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ‏}‏ ‏(‏يُونُسَ‏:‏ 78‏)‏‏.‏

الثَّانِي‏:‏ مِنْ خِطَابِ الْوَاحِدِ إِلَى خِطَابِ الْجَمْعِ مِنْ أَقْسَامِ الِانْتِقَالِ انْتِقَالُ الْخِطَابِ‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ‏}‏ ‏(‏الطَّلَاقِ‏:‏ 1‏)‏‏.‏

الثَّالِثُ‏:‏ مِنَ الِاثْنَيْنِ إِلَى الْوَاحِدِ مِنْ أَقْسَامِ الِانْتِقَالِ انْتِقَالُ الْخِطَابِ كَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى‏}‏ ‏(‏طه‏:‏ 49‏)‏ ‏{‏فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى‏}‏ ‏(‏طه‏:‏ 117‏)‏‏.‏

الرَّابِعُ‏:‏ مِنَ الِاثْنَيْنِ إِلَى الْجَمْعِ مِنْ أَقْسَامِ الِانْتِقَالِ انْتِقَالُ الْخِطَابِ كَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ‏}‏ ‏(‏يُونُسَ‏:‏ 87‏)‏ وَفِيهِ انْتِقَالٌ آخَرُ مِنَ الْجَمْعِ إِلَى الْوَاحِدِ، فَإِنَّهُ ثَنَّى ثُمَّ جَمَعَ، ثُمَّ وَحَّدَ، تَوَسُّعًا فِي الْكَلَامِ، وَحِكْمَةُ التَّثْنِيَةِ أَنَّ مُوسَى وَهَارُونَ هُمَا اللَّذَانِ يُقَرِّرَانِ قَوَاعِدَ النُّبُوَّةِ وَيَحْكُمَانِ فِي الشَّرِيعَةِ، فَخَصَّهُمَا بِذَلِكَ، ثُمَّ خَاطَبَ الْجَمِيعَ بِاتِّخَاذِ الْبُيُوتِ قِبْلَةً لِلْعِبَادَةِ؛ لِأَنَّ الْجَمِيعَ مَأْمُورُونَ بِهَا، ثُمَّ قَالَ لِمُوسَى وَحْدَهُ‏:‏ ‏{‏وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ‏}‏ ‏(‏يُونُسَ‏:‏ 87‏)‏ لِأَنَّهُ الرَّسُولُ الْحَقِيقِيُّ الَّذِي إِلَيْهِ الْبِشَارَةُ وَالْإِنْذَارُ‏.‏

الْخَامِسُ مِنَ الْجَمْعِ إِلَى الْوَاحِدِ مِنْ أَقْسَامِ الِانْتِقَالِ انْتِقَالُ الْخِطَابِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ‏}‏ ‏(‏يُونُسَ‏:‏ 87‏)‏ وَقَدْ سَبَقَ حِكْمَتُهُ، وَمِنْ نَظَائِرِهِ قَوْلُ بَعْضِهِمْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 38‏)‏ ثُمَّ قَالَ‏:‏ ‏{‏فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى‏}‏ ‏(‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 38‏)‏ وَلَمْ يَقُلْ ‏"‏ مِنَّا ‏"‏ مَعَ أَنَّهُ لِلْجَمْعِ أَوْ لِلْوَاحِدِ الْمُعَظِّمِ نَفْسَهُ، وَحِكْمَتُهُ الْمُنَاسَبَةُ لِلْوَاقِعِ، فَالْهُدَى لَا يَكُونُ إِلَّا مِنَ اللَّهِ، فَنَاسَبَ الْخَاصَّ لِلْخَاصِّ‏.‏

السَّادِسُ‏:‏ مِنَ الْجَمْعِ إِلَى التَّثْنِيَةِ؛ مِنْ أَقْسَامِ الِانْتِقَالِ انْتِقَالُ الْخِطَابِ كَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا‏}‏ ‏(‏الرَّحْمَنِ‏:‏ 33‏)‏ إِلَى قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ‏}‏ ‏(‏الرَّحْمَنِ‏:‏ 34‏)‏‏.‏

السَّابِعُ‏:‏ ذَكَرَ بَعْضُهُمْ مِنَ الِالْتِفَاتِ تَعْقِيبَ الْكَلَامِ بِجُمْلَةٍ مُسْتَقِلَّةٍ مُلَاقِيَةٍ لَهُ فِي الْمَعْنَى عَلَى طَرِيقِ الْمَثَلِ أَوِ الدُّعَاءِ؛ مِنْ أَقْسَامِ الِانْتِقَالِ فَالْأَوَّلُ كَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا‏}‏ ‏(‏الْإِسْرَاءِ‏:‏ 81‏)‏ وَالثَّانِي كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ‏}‏ ‏(‏التَّوْبَةِ‏:‏ 127‏)‏‏.‏

الثَّامِنُ‏:‏ مِنَ الْمَاضِي إِلَى الْأَمْرِ؛ مِنْ أَقْسَامِ الِانْتِقَالِ انْتِقَالُ الْخِطَابِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ‏}‏ ‏(‏الْأَعْرَافِ‏:‏ 29‏)‏ وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ حُنَفَاءَ لِلَّهِ‏}‏ ‏(‏الْحَجِّ‏:‏ 30- 31‏)‏‏.‏

التَّاسِعُ‏:‏ مِنَ الْمُسْتَقْبَلِ إِلَى الْأَمْرِ؛ مِنْ أَقْسَامِ الِانْتِقَالِ انْتِقَالُ الْخِطَابِ تَعْظِيمًا لِحَالِ مَنْ أُجْرِيَ عَلَيْهِ الْمُسْتَقْبَلُ‏.‏ وَبِالضِّدِّ مِنْ ذَلِكَ فِي حَقِّ مَنْ أُجْرِيَ عَلَيْهِ الْأَمْرُ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ‏}‏ ‏(‏هُودٍ‏:‏ 53‏)‏ إِلَى قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ‏}‏ ‏(‏هُودٍ‏:‏ 54‏)‏ فَإِنَّهُ إِنَّمَا قَالَ‏:‏ أُشْهِدُ اللَّهَ ‏(‏هُودٍ‏:‏ 54‏)‏ وَاشْهَدُوا ‏(‏هُودٍ‏:‏ 54‏)‏ وَلَمْ يَقُلْ‏:‏ ‏"‏ وَأُشْهِدُكُمْ ‏"‏؛ لِيَكُونَ مُوَازِنًا لَهُ، وَلَا شَكَّ أَنَّ مَعْنَى إِشْهَادِ اللَّهِ عَلَى الْبَرَاءَةِ صَحِيحٌ فِي مَعْنًى يُثْبِتُ التَّوْحِيدَ؛ بِخِلَافِ إِشْهَادِهِمْ، فَمَا هُوَ إِلَّا تَهَاوُنٌ بِدِينِهِمْ، وَدَلَالَةٌ عَلَى قِلَّةِ الْمُبَالَاةِ بِهِ، فَلِذَلِكَ عَدَلَ عَنِ اللَّفْظِ الْأَوَّلِ؛ لِاخْتِلَافِ مَا بَيْنَهُمَا، وَجِيءَ بِهِ عَلَى لَفْظِ الْأَمْرِ كَمَا تَقُولُ لِلرَّجُلِ مُنْكِرًا‏:‏ اشْهَدْ عَلَيَّ أَنِّي أُحِبُّكَ‏.‏

الْعَاشِرُ‏:‏ مِنَ الْمَاضِي إِلَى الْمُسْتَقْبَلِ؛ مِنْ أَقْسَامِ الِانْتِقَالِ انْتِقَالُ الْخِطَابِ نَحْوَ‏:‏ ‏{‏وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ‏}‏ ‏(‏فَاطِرٍ‏:‏ 9‏)‏ ‏{‏فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ‏}‏ ‏(‏الْحَجِّ‏:‏ 31‏)‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ‏}‏ ‏(‏الْحَجِّ‏:‏ 25‏)‏‏.‏

وَالْحِكْمَةُ فِي هَذِهِ أَنَّ الْكُفْرَ لَمَّا كَانَ مِنْ شَأْنِهِ إِذَا حَصَلَ أَنْ يَسْتَمِرَّ حُكْمُهُ عَبَّرَ عَنْهُ بِالْمَاضِي، لِيُفِيدَ ذَلِكَ مَعَ كَوْنِهِ بَاقِيًا أَنَّهُ قَدْ مَضَى عَلَيْهِ زَمَانٌ؛ وَلَا كَذَلِكَ الصَّدُّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، فَإِنَّ حُكْمَهُ إِنَّمَا ثَبَتَ حَالَ حُصُولِهِ مَعَ أَنَّ فِي الْفِعْلِ الْمُسْتَقْبَلِ إِشْعَارًا بِالتَّكْثِيرِ، فَيُشْعِرُ قَوْلُهُ‏:‏ ‏"‏ وَيَصُدُّونَ ‏"‏ أَنَّهُ فِي كُلِّ وَقْتٍ بِصَدَدِ ذَلِكَ، وَلَوْ قَالَ‏:‏ ‏"‏ وَصَدُّوا ‏"‏ لَأَشْعَرَ بِانْقِطَاعِ صَدِّهِمْ‏.‏

الْحَادِيَ عَشَرَ‏:‏ عَكْسُهُ، كَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ‏}‏ ‏(‏النَّمْلِ‏:‏ 87‏)‏ ‏{‏وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ‏}‏ ‏(‏الْكَهْفِ‏:‏ 47‏)‏‏.‏

قَالُوا‏:‏ وَالْفَائِدَةُ فِي الْفِعْلِ الْمَاضِي مِنْ أَقْسَامِ الِانْتِقَالِ انْتِقَالُ الْخِطَابِ مِنَ الْمُسْتَقْبَلِ إِذَا أُخْبِرَ بِهِ عَنِ الْمُسْتَقْبَلِ الَّذِي لَمْ يُوجَدْ، أَنَّهُ أَبْلَغُ وَأَعْظَمُ مَوْقِعًا، لِتَنْزِيلِهِ مَنْزِلَةَ الْوَاقِعِ، وَالْفَائِدَةُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ إِذَا أُخْبِرَ بِهِ عَنِ الْمَاضِي لِتَتَبَيَّنَ هَيْئَةُ الْفِعْلِ بِاسْتِحْضَارِ صُورَتِهِ، لِيَكُونَ السَّامِعُ كَأَنَّهُ شَاهِدٌ، وَإِنَّمَا عَبَّرَ فِي الْأَمْرِ بِالتَّوْبِيخِ بِالْمَاضِي بَعْدَ قَوْلِهِ‏:‏ يُنْفَخُ ‏(‏النَّمْلِ‏:‏ 87‏)‏ لِلْإِشْعَارِ بِتَحْقِيقِ الْوُقُوعِ وَثُبُوتِهِ، وَأَنَّهُ كَائِنٌ لَا مَحَالَةَ؛ كَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا‏}‏ ‏(‏إِبْرَاهِيمَ‏:‏ 21‏)‏ وَالْمَعْنَى‏:‏ يَبْرُزُونَ، وَإِنَّمَا قَالَ‏:‏ وَحَشَرْنَاهُمْ ‏(‏الْكَهْفِ‏:‏ 47‏)‏ بَعْدَ نُسَيِّرُ ‏(‏الْكَهْفِ‏:‏ 47‏)‏ وَتَرَى ‏(‏الْكَهْفِ‏:‏ 47‏)‏ وَهُمَا مُسْتَقْبَلَانِ؛ لِذَلِكَ‏.‏